«سكة القبوة».. مسرح غرام السياح بالقاهرة التاريخية

شيدها السلطان الغوري ليستجير بها التجار من البرد والحر

TT

لا تكف منطقة خان الخليلي والحسين بالقاهرة التاريخية عن أن تظل مسرحا دائما للكثير من القصص والحكايات، فكل عطفة تحكي أسطورة من الزمن القديم تغزلها المفردات الجميلة، فهذه «سكة القبوة» التي تعتبر «سرة خان الخليلي» كما يطلق عليها أصحاب المحلات والدكاكين، ويروون أن سبب التسمية يعود إلى أن هذا المكان يتميز بقطعتين من أجمل القبوات الموجودة في المنطقة، ويعبر بينهما ممر طويل يصل إلى قهوة الفيشاوي شمالا أو إلى حي الصاغة العريق جنوبا أو يخرج بك إلى «ربع السلسلة» شرقا.

يقول خالد خليل، مسؤول الآثار في منطقة الحسين والجمالية: «(سكة القبوة) كانت وكالة تجارية في عصر المماليك، و(القبوة) نسبة إلى واحدة من ثلاث قبوات تعتلي البوابات الثلاث اللاتي تم إنشاؤها سنة 1500 ميلادية، عندما تولى السلطان أبو النصر قانصوه الغوري الحكم، حيث اهتم بالعمارة في هذه المنطقة، فله فيها في الجهة المقابلة وكالة الغوري والمسجد ومدرسة وسبيل، وجميعها يحمل اسمه».

يضيف خليل: «كان سور القاهرة القديمة ينتهي عند هذه النقطة، وكان التجار عندما يأتون إلى مصر محملين بالبضاعة ينتظرون في الخارج حتى يؤذن لهم في الدخول، ومن هنا أتت فكرة البوابة لدعم التجارة التي نشطت في عصر السلطان الغوري، خاصة التي كانت تأتي عبر رأس الرجاء الصالح، ويمر عبر هذه البوابات اليوم ممر طويل يحتوي على نحو 40 دكانا، لا يتجاوز مساحة الواحد منهما 30 مترا».

وفكرة بناء «القبوة» أتت لحاجة التجار لما يستظلون به من الحر صيفا والاحتماء من المطر والبرد شتاء عند عرض بضاعتهم، فكانت الفكرة في بناء جسر صغير على هيئة قبة «القبوة»، وكان المماليك من أوائل من استخدمها معماريا في الهياكل التي تبنى تحت الأرض «السراديب»، لذا تطلق كلمة «قبو» على السراديب، ثم استخدمت في المباني العامة خاصة بيوت الأغنياء لأن تكلفتها كانت عالية لصعوبة بنائها؛ وظل استخدامها شائعا حتى القرن التاسع عشر إلى أن انتشرت بعض أساليب البناء خصوصا شكل «العقادة»، ثم في القرن العشرين انتشرت السقوف القبوية وهي عبارة عن هيكل تسقيف معماري مكور من الداخل. ومن الناحية الإنشائية، يعمل القبو كوحدة واحدة تنقل الأحمال من هيكل السقف إلى الجدران أو الأعمدة «الجسور» التي يستند إليها القبو والتي تعد من أقدم وسائل التسقيف وتتمتع بمتانة ومقاومة عالية، لذا تغطى به المساحات الواسعة.

يختم خالد خليل حديثة لافتا إلى أن القبوات الموجودة في «سكة القبوة» من الداخل تم نقشها على يد أمهر فناني النقش في عصر المماليك بالزخارف الإسلامية والوحدات النباتية التي انتشرت في هذا الوقت، لتظل تحفة معمارية صامدة إلى هذا اليوم، وأجمل ما تبقى منها جدار أسفل إحدى القبوات كتب عليه بالخط العربي «أمر بإنشاء هذا الحصن الملك المظفر، عز نصره، السلطان الغور»، كأنها شهادة منة للتاريخ، فضل أن تحفر على الحجر حتى لا تمسح أو تنسى.

وفي «سكة القبوة»، يجلس الحاج حمدي شعبان، (50 عاما)، يرتشف فنجان قهوته التي ملأت المكان برائحة البن المحوج، يقول: «أنا مولود في هذا المكان، وورثت عن جدودي محلا لبيع السبح يدوية الصنع ذات الأحجار الكريمة ونصف الكريمة، التي يأتي لشرائها من شتى أنحاء العالم الزبائن فالمحل معروف منذ زمن، فالسائح لا تتم زيارته لمصر، ولمنطقة (خان الخليلي) خاصة، دون التجول والوصول إلى هنا (صرة المكان)، فهنا الورش التي يخرج منها كل الحرف، هنا الأسطوات ومشايخ الصنعة يجلسون في أماكنهم ليبدعون بأناملهم أجمل المشغولات، في هذا الشارع يعيش سكان البلد الحقيقيون، وهذا المكان عبر منه عدد كبير من المشاهير تجولوا والتقطوا الصور التذكارية، وكان جو المكان ملهما لهم ومحفزا لإبداعاتهم ولا يكف الشارع عن استقبال السياح لالتقاط الصور أو عمل برامج وثائقية، أو الشراء».

وحول أسرار جاذبية المكان، يقول الحاج حمدي: «لليوم، مفاتيح وأسرار جذب المكان للناس غير معروفة أسبابها، ولكن تبريرها الوحيد هي روح المكان، وناسه البسيطة التي تقابلك بابتسامة ودودة وكلمات طيبة، رغم كل ما يعانونه من مصاعب الحياة، فهذا المكان الذي شيد في يوم من الأيام لدعم التجارة والنهوض بها، حاليا يمر بأصعب مراحله، وذلك رغم كثرة المحلات والدكاكين التي تقدم للزبون أفضل الخامات والمنتجات وبأسعار معقولة، حيث تعرض فور خروجها من الورشة فلا يكون بين الصانع والمشترى أي وسيط».

ويختم الحاج حمدي حديثه مؤكدا أن السائح الذي يتوافد إلى هذا الشارع ذواقة وذو غرام خاص بالشراء والاستمتاع بمشاهدة مراحل تصنيع بعض المنتجات المصرية القديمة مثل النقش على النحاس، وكتابة الأسماء على الرمال، وتشكيل الطين وتلوينه، وغزل الحرير.