ورزازات «هوليوود أفريقيا».. أبناؤها كومبارس الأفلام العالمية

تجذب عشرات المخرجين العالميين وتخطط لقفزة عام 2016

مدينة ورزازات المغربية تحولت بفعل موقعها الطبيعي الخلاب إلى مركز لاستوديوهات تصوير هي الأضخم في القارة الأفريقية
TT

منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم ومدينة ورزازات المغربية قبلة المخرجين السينمائيين. تحولت بفعل موقعها الطبيعي الخلاب إلى مركز لاستوديوهات تصوير هي الأضخم في القارة الأفريقية. يقصدها سنويا عشرات المخرجين، وفيها صورت أشهر الأفلام التاريخية الكبرى، وإليها شد الرحال ألفريد هيتشكوك ومارتن سكورسيزي وريدلي سكوت، وآخرين. ماذا يحدث في ورزازات هذه الأيام، ولماذا خبا وهجهها؟ تحقيق ميداني يلقي الضوء.

غير بعيد عن مدينة مراكش، عاصمة السياحة المغربية، توجد «ورزازات» مدينة السينما المغربية.. «هوليوود أفريقيا» كما سماها الأميركيون، أو «بوابة الصحراء» كما يطلق عليها الفرنسيون. مدينة حمراء اللون، جذبت كبار المخرجين الأميركيين والفرنسيين كما جذبت أوروبيين آخرين وعربا، وهي التي تنشر الآن «ثقافة السينما» في المغرب.

تقع جنوب البلاد، وتبدو للوهلة الأولى مدينة منعزلة وغافية وسط الجبال والواحات، لكنها تمور في الواقع بحركة إبداع استثنائية. هنا توجد أضخم استوديوهات سينمائية في القارة الأفريقية. تستقطب ورزازات كل سنة عشرات المخرجين الذين يأتون إليها لتصوير مشاهد أفلام ضخمة تبلغ ميزانياتها ملايين الدولارات، ويعمل الآلاف من أبناء المدينة «كومبارس» في هذه الأفلام، وتلك خاصية لا توجد في أي مدينة أخرى في العالم. ورزازات مدينة الديكورات والتمثيل، والمهن الأخرى المرتبطة بالسينما وعالمها. مدينة سينمائية على الرغم من أنها لا توجد بها دار عرض واحدة، بل هي عبارة عن استوديو طبيعي، والراغبون في الفرجة يشاهدون الأفلام مباشرة وهي تصور أمامهم.

شيدت الاستوديوهات داخل وخارج ورزازات، وتحولت مئات الهكتارات إلى مسرح للتمثيل، في بيئة تكاد تكون مثالية لعمل السينما الهوليودية التي تعتمد التجسيد الفني. في استوديوهات ورزازات يوجد كل ما يتعلق بالإنتاج السينمائي: معامل، قاعات مونتاج، متاجر، مطاعم، فنادق، ومركز للتكوين السينمائي. معظم الاستوديوهات تطل على فضاء شاسع من المناظر الجبلية الخلابة. هناك أيضا معامل للمهن السينمائية، خياطة ونجارة وصباغة وماكياج وجبس ونقش، ومواقع للمتفجرات، وإسطبلات لمئات الخيول والجمال التي يتم تدريبها على التمثيل ومكاتب لإدارة الإنتاج.

في «استوديو أطلس» وجدنا «معبد أبو سنبل»، هناك أيضا تماثيل فرعونية تقف صامتة. في هذا المكان تحديدا جرى تصور فيلم «كليوباترا» وعدة أفلام عالمية. أشهر هذه الأفلام صورت في «استوديوهات أطلس» الشاسعة. يجد الزائر فور دخول هذه الاستوديوهات ساحة كبيرة وضعت فيها طائرة بيضاء، وسيارة «فيراري» حمراء هي بقايا فيلم «جوهرة النيل» لمايكل دوغلاس الذي صور في ورزازات عام 1984، وكذا فيلم «المصارع» و«كينغ أو هافن» للمخرج ريدلي سكوت.

أمام الساحة باب صغير، ويوجد الباب الخلفي للمبنى، حيث يقتضي الدخول إليه الانحناء قليلا. هناك وجدنا أنفسا أمام تمثال كبير وخزانات فيها كتب بلا حصر.. إنه معبد «بوذا» والتمثال الكبير هو «بوذا». كل شيء في هذه الاستوديوهات مصنوع من جبس وكرتون وقصب، شيء مبهر فعلا. جميع هذه الديكورات شيدها حرفيون من أبناء ورزازات. أغلب الديكورات في هذا الاستوديو من طين وجبس. بعض الديكورات انهارت، ولم يتم ترميمها.

هنا كذلك يوجد قصر كليوباترا وبيوت صغيرة وسوق، قال لنا المرشد إنها شيدت أثناء تصوير فيلم «النبي يوسف». لكن ليس كل التصوير يجري في الاستوديوهات، بل هناك مناطق صورت فيها أفلام لا توجد بها أبسط المرافق، ولا حتى الطرق المعبدة، مثل منطقة «فينت»، وينطبق الأمر نفسه على قصبة «آيت حدو»، التي صورت فيها أفلام عالمية، مثل «غلادياتور»، وتعد من المآثر المصنفة ضمن التراث الإنساني العالمي.

في نهاية القرن التاسع عشر عام 1897 تم تصوير أول فيلم أجنبي في ورزازات، بعنوان «راعي الماعز المغربي»، وكان وراء هذا الإنجاز رائد السينما الفرنسية لوي لوميير. وتوالت بعده أعمال فرنسية أخرى منها «الدم» للويتس مورا و«إن شاء الله» لفرانز توسان.

في أواخر عشرينات القرن الماضي اكتشف الأميركيون هذا المكان الرائع، ليصير وجهتهم طوال القرن الماضي. في عام 1930، وصل إليه جوزيف فون ستيرنبيرغ لتصوير «قلوب محترقة». وستعرف ورزازات التحول الكبير في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث سيتجه نحوها وبكثافة أشهر المخرجين والممثلين والمنتجين السينمائيين في العالم، منهم ألفريد هيتشكوك، ومارتن سكورسيزي، وأنتوني كوين، وريدلي سكوت، ومصطفى العقاد، وأوليفر ستون، وسيرجيو ليوني، وليوناردو دي كابريو، ومايكل دوغلاس، وجان بول بلموندو.

عندما تتجول في ورزازات، المدينة الخلابة التي ترتفع عن سطح البحر بنحو 1136 مترا، وتعد تلالها وواحاتها الخضراء أكبر استوديو طبيعي في العالم، ستجد نفسك في هوليوود أخرى. الطبيعة خلابة والقصور والقصبات والواحات ممتدة على مد البصر، والكنائس والأهرامات والثلوج والصحراء، هنا كل ما يغري كبار المخرجين.

في المدينة توجد «واحات سكورة» و«قصر آيت حدو» وقصبات «تمغرط» وقصبة «تاوريرت» ووادي درعة. أمكنة متنوعة تجد نفسك فيها تعيش الماضي مع حروب الرومان، وزمن الحضارات الكبيرة مثل الحضارة المصرية والرومانية والصينية، كما توجد بها «الأهرامات المصرية» و«مدينة القدس» القديمة. كل هذا موجود في ورزازات تجسده الديكورات التي تحتفظ بها المدينة في جميع استوديوهاتها.

قبالة «قصبة تاوريرت» يوجد المتحف السينمائي. يبدو المتحف عاديا من الخارج. أمامه تمثالان لحصانين وبئر، في جانب المدخل يوجد باب وممر طويل بعد المدخل الأول، استفسرنا الحارس حول ما إذا كان هناك دليل سيعرفنا على المكان، أجاب قائلا «لن تحتاجوا لأحد، كل شيء موجود في هذه الورقة». دخلنا الباب الذي يقود إلى «قاعة عرش الملك سليمان»، هكذا كتب في لوحة وضعت وسط ساحة بها ديكور استثنائي، يتوسطه كرسي فخم مذهب. كل شيء هنا من جبس وكرتون وقصب. إذا نقرت الجدار تسمع صدى يتردد في أرجاء الفضاء الخالي.

الأفلام التي صورت هنا معظمها كانت خلال فترة التسعينات، وصورها إيطاليون. أغلبها أفلام تتحدث عن المسيح والنبي يوسف. يوجد إلى جانب قاعة «عرش سليمان» على اليمين معبد صغير ومحكمة وبرلمان، بعد ذلك ممر طويل ومظلم دخلناه فوجدنا سجنا فيه زنازين مظلمة من جبس وقضبان خشبية، وسلاسل صدئة من حديد. خرجنا من «قاعة العرش» ودخلنا من الممر الثاني الطويل، كانت هناك بناية ضخمة في بابها توجد مغارة سوداء، سألنا أحد الحراس هل هي للتمثيل، فقال إنها مجرد ديكور للمكان. دخلنا من باب كبير بجانب المغارة، كان كل شيء لا يصدق عربات مصففة ومزينة بنقوش وألوان زاهية. إنها العربات التي كانت تحمل فوقها كليوباترا في فيلم يحمل اسمها.

أكملنا التجول فوجدنا غرفة كبيرة فيها سرير مزين ومغطى بغطاء أحمر ووسائد من ثوب ذهبي اللون.. إنها غرفة زوجة الفرعون. مشينا في سراديب بعضها يقود إلى غرف تصوير مجاورة وأخرى إلى طرق مسدودة. «هنا صور فيلم (لابييل)، وهنا صور فيلم (عيسى)»، قالها حارس كان يقف إلى جانبنا، مشيرا إلى غرف مظلمة. قادنا الحارس إلى قاعة أخرى فسيحة فيها معدات تصوير قديمة بعضها كان يعمل بالفحم، تتفرع عن القاعة غرفة ملابس فيها ثياب قديمة استعملت في تصوير أفلام تاريخية. إلى جانبها نبال ورماح ودروع من جلد وحديد وجبس. كان المشهد مثيرا.

في ورزازات ومن خلال قوائم الأفلام التي صوّرت، يمكن رصد عشرات الأفلام التي كان للصحراء فيها دور محوري، منها «جوهرة النيل» عام 1985، و«الفرقة الأجنبية» عام 1998، و«المومياء» عام 1999، و«المصارع» عام 2000، و«بابل» عام 2006، وبعض الأفلام المهمة التي استغلت الأراضي المغربية لتجسد أجواء غير عربية مثل «كويدون» إخراج مارتن سكورسيزي عام 1997، والفيلم التلفزيوني «كليوباترا» عام 1999، ومسلسل «قدماء المصريين» عام 2003، و«طروادة» 2004 إخراج فولفغانغ بيترسين، و«ألكسندر» 2004، إخراج أوليفر ستون.

صورت في ورزازات أفلام تحمل أسماء «الوصايا العشر»، و«إبراهيم»، و«يعقوب»، و«يوسف»، و«موسى»، و«سليمان وسبأ»، و«داود»، و«يسوع»، و«سليمان»، و«سارة»، و«شمشون ودليلة». وهناك أفلام أنتجت تصور أحداثا تدور في المغرب، وتلعب فيها شخصيات مغربية أدوارا محورية مثل «غريب بشع» إنجليزي 1998، و«الآن سيداتي سادتي» فرنسي 2002، و«لقطات» أميركي 2002، و«بابل» مكسيكي 2006، و«الممر» أميركي 2007، والقائمة تطول. معظم هذه الأفلام تعتمد على أجواء تتشابك فيها العلاقات بين مغاربة وأجانب، تسيطر عليهم الدهشة، تجاه مظاهر وتقاليد تعكس البؤس والجهل، وأحيانا طقوس حفلات السحر والشعوذة.

يقول مصطفى أفاقير، أستاذ بمعهد المهن السينمائية والمتخصص في مجال السينما «في الثمانينات والتسعينات صورت بمدينة ورزازات أفلام حول أنبياء وأفلام تاريخية مثل (إبراهيم) و(يوسف) و(عيسى)». ويشرح أفاقير أنه «قدم فريق إنتاج إيطالي إلى ورزازات واكتشف أن مستوى الضوء مناسب للتصوير، وبعد فيلم (لورنس العرب) الذي تم تصويره عام 1962 لاحظ مخرجون جودة الضوء الطبيعي للمدينة، كما وجد المخرجون أن لون الجبال مناسب جدا للتصوير خاصة الأفلام التاريخية».

وروى أفاقير أنه من بين الحكايات التي حدثت في ورزازات أن الممثل الأميركي «براد بيت» عندما جاء المدينة لتمثيل أحد الأفلام طلب أن تكون له صالة رياضة، واضطر المعنيون لإحضار صالة للرياضة من الدار البيضاء. وعلى الرغم من ذلك لم يستعملها إلا أربع مرات، لأنه بدلا من ممارسة الرياضة كان يجلس مع بسطاء المدينة لشرب الشاي المنعنع.

ويعتقد أفاقير أن المشكلة في ورزازات تكمن في أن بنية الاستوديوهات ليست في حالة جيدة وعليها أن تتطور أكثر، حيث بدأت الديكورات التاريخية تتلاشى وتنهار، إضافة إلى مشاكل بيروقراطية. وقال أفاقير إن هناك مشروعا لتشييد مجمع سينمائي، يضم الديكور فيه إكسسوارات وصالات مونتاج، سيتكفل به المركز السينمائي المغربي. وحول كيفية تطوير ورزازات لتصبح بالفعل عاصمة السينما في أفريقيا قال أفاقير في حواره مع «الشرق الأوسط»: «المطلوب بنية تحتية قوية جدا والمحافظة على الديكورات، وأن يواكب ذلك خطة دعائية وإعلامية قوية، ونكون حاضرين في جميع الملتقيات لبيع هذا المنتوج السينمائي وتسويقه». ويعتقد أفاقير أن «استوديو أطلس» هو الأفضل على مستوى أفريقيا من حيث تحقيق المداخيل، وكان قد شيد عام 1984، عندما تقرر تصوير فيلم «لؤلؤة النيل» لمخرجه لويس تيك. ويوجد في الاستوديو فندق ومجموعة من المرافق.

مع تراجع الإنتاج السينمائي عام 2008 تحديدا، تشكلت «لجنة الفيلم» في ورزازات، كما تأسس «معهد ورزازات المتخصص في المهن السينمائية». وتبعا للتصورات التي وضعت لإنعاش السينما بدأ العمل عام 2009 بإنشاء جهة واحدة، تتعامل معها شركات الإنتاج، لتفادي البيروقراطية، وفسح المجال أمام الكفاءات والموارد البشرية وتطوير البنية التحتية، وتقديم التحفيزات المالية التي من شأنها تشجيع جميع الأطراف على العمل والإبداع. كل ذلك يندرج ضمن هدف استراتيجي يسعى إلى جعل ورزازات رائدة في استقبال النتاجات السينمائية في أفريقيا عام 2016.

أبرز المخرجين الذين دأبوا على العمل في ورزازات بميزانيات ضخمة هما ريدلي سكوت ومارتن سكورسيزي، الأول كلف تصوير فيلمه «غلادياتور» عشرة ملايين دولار، وشمل ذلك تكاليف إنشاء مواقع التصوير وأجور الكومبارس وامتد التصوير لستة أشهر. ولإنجاز فيلم «مملكة الجنة» للمخرج نفسه شيدت «مدينة القدس» التي شارك في إنشائها 300 حرفي ضمنهم مائة إيطالي، وتطلب الأمر عشرة أشهر، وشارك في التمثيل ألف ممثل كومبارس.

أسهمت ورزازات في نشر ثقافة السينما في المغرب، عن طريق الطلبة الذي يدرسون بمعهد السينما بورزازات، حيث يكتسبون الثقافة السينمائية وينشرونها في مختلف الأوساط. ورزازات مدينة هادئة، يمكنك أن تلتقي فيها بأناس بسطاء شاركوا في أعمال سينمائية ضخمة جلبت الملايين من الدولارات لأصحابها. في المقاهي الشعبية ستجد من مثلوا في أدوار الكومبارس، وأدوا أدوارهم البسيطة إلى جانب براد بيت وليوناردو دي كابريو، أو مع أبطال أفلام عالمية كمثل «غلادياتور» و«مملكة الجنة» و«شاي في الصحراء» و«بابل». قال لنا أحد أبناء مدينة ورزازات، الذي عمل «كومبارس» في عدد من الأعمال السينمائية العالمية «مدينتنا تتميز بهدوئها وواحاتها وقصورها وقصباتها، وتنوعها الجغرافي، وكل هذا يحقق شهرة للمغرب ويجلب عشرات آلاف السياح من مختلف أنحاء العالم، كما أن صناعة السينما في المدينة تخلق وظائف لنصف سكان المدينة الذين يعملون كومبارس وفي المهن الأخرى المتعلقة بصناعة السينما».