مهرجان «صندانس» يواجه النار بالنار

موجة ساخنة من الأفلام تذيب جليد مدينة بارك سيتي

عشرون قدما بعيدا عن الشهرة من اخراج مورغن نيفيل
TT

مدخل المركز الصحافي في مدينة بارك سيتي، حيث يُقام فيها مهرجان صندانس للسينما المستقلة، مزدحم بعد يومين من بدء المهرجان، كما كان حاله في اليوم الأول. لكن التنظيم الجيّد يقضي على التأخير، خصوصا أن غالبية القائمين على هذا المركز من ذوي الخبرة، إذ سبق لهم أن عملوا فيه في العام الماضي أو لبضعة أعوام متوالية سابقا. إلى ذلك، كل ما تحتاجه للبدء بمشروعك الجديد مشاهدة كل أفلام المهرجان (وهو مشروع عادة ما يتمخّض عن عدد لا يتجاوز الـ30 أو الـ35 منها) هو تلك البطاقة السحرية. تخرج من المركز الصحافي الدافئ إلى الشارع البارد، ثم تدخل القاعة الدافئة مرّة أخرى.

في غرفتك في الشقة التي تم إنزالك فيها كل ما تطلبه للراحة، لكنك لن تقضي داخل الشقة سوى بضع ساعات تتوزع بين الكتابة والنوم. البعض ما زال يحتاج لأن يكتب فتراه يمارس ذلك في المقهى القريب أو بين لقمة وأخرى وقت وجبة الغذاء في مطعم الهمبرغر الشهير، والقلـة هي التي تستطيع أن تغفو. لا بد في ذلك الحال أن يكون الفيلم من الرتابة بحيث يفكّر النائم، قبل أن يخلد للراحة، أنه أمام احتمالين؛ الخروج من الصالة إلى الشارع أو البقاء والنوم فيبقى وينام.

على الأقل، لا أحد يتحدث من اللحظة الأولى التي تنبض فيها الشاشة بالحياة الأخرى. من دقيقة الفيلم الأولى إلى دقيقته الأخيرة ليس هناك ما يمزّق الأذن من المؤثرات الصوتية كالكلام والطعام، وليس هناك ما يلمع فجأة أمام عينيك لأن الجالس أمامك قلق من أن يكون فاته «إيمايل». هذا يبدو غريبا بالمقارنة مع ما يمارسه جمهور المهرجانات العربية: كل ما سبق وفوقه الوصول متأخرين إلى الفيلم.

هناك وجه مقارنة آخر، وهو إثارة المهرجان نقاشا ساخنا (وعادة ما يكون سياسيا). في مراكش مثلا لا ينتهي التعليق على غياب السينما المغربية من الجوائز، وأحيانا من المسابقة أساسا. في القاهرة ما إذا كان فريق إدارة المهرجان قبل المتغيرات (أو ما يسمى بـ«ثورة الربيع») تصلح لأن تقود المهرجان ذاته بعدها.

في صندانس قضية هذا العام كانت من السخونة، بحيث إن ثلج المدينة بدا كما لو أنه ذاب بسببها، وليس بسبب الشمس التي قررت إلقاء تحية على الحضور؛ فرئيس المهرجان الممثل، المخرج روبرت ردفورد فتح النار على المحافظين من سياسيي ولاية يوتا الذين تداعوا إلى حجب المعونة المالية التي تمنحها الولاية لمهرجان صندانس، بداعي أن سياسة المهرجان الليبرالية «لا تعكس قيم الولاية»، كما جاء في تلك الدعوة.

روبرت ردفورد الذي جلس على كرسي قيادة هذا المهرجان من نحو 22 سنة، رد مذكّرا أن المهرجان يعود على ولاية يوتا بنحو 80 مليون دولار كل عام. وقال كذلك إن المهرجان يفتح المجال لمجموعة كبيرة من الأفلام، والجمهور هو الذي يختار.

والاختيارات متعددة بالفعل. لا يمكن تسمية أفلام الرعب التي تعرض في حفلات منتصف الليل بأنها ليبرالية، بل حقيقة أن العنف هو ما يقود تلك الأفلام يجعلها على نقيض مع الليبراليين الذين يؤيدون باراك أوباما في سعيه للحد من انتشار السلاح الفردي بين المواطنين، وعلى النقيض مع المحافظين حينما يتحدثون عن القيم كما لو أن العنف هو إحدى هذه القيم.

كَفن جاكرنوث، الذي يغطي المهرجان لموقع «The Playlist» يقول إن هذا الموضوع هو واحد من أكثر المواضيع الحالية أهمية: «الناس تريد أن تطمئن إلى أن أولادها في المدارس أو آباءها في أعمالهم آمنون من حملة سلاح متطرفين». لكن فريقا كبيرا من الأميركيين (وجل المتطرفين أيضا) يعتقد أن سحب السلاح من أيدي المواطنين هو «مؤامرة تهدف إلى تمكين الدولة من ممارسة أعمال بوليسية والتحول الكامل إلى الديكتاتورية». وإذ يقول واحد هذا الكلام على مأدبة صحافية كان لا بد أن يسارع ويضيف: «هذا ما قرأته وليس ما أتبناه».

أقل إثارة بعد 3 أيام من افتتاح المهرجان (الذي تم في الـ17 من هذا الشهر) هو تبادل النار الذي وقع بين المخرج سبايك لي والممثل جايمي فوكس بسبب الفيلم الذي قام جايمي فوكس ببطولته والمعروض حول العالم الآن وهو «دجانغو طليقا»، فسبايك لي بادر بفتح النار على مخرج الفيلم كونتين تارانتينو بسبب كثرة استخدام كلمة «Nigger» في الفيلم، وبسبب اعتقاده بأن الفيلم يسيء إلى مسألة تحرير العبيد. لكن سبايك لي، وهو مخرج أفرو - أميركي اعترف بأنه لم يشاهد الفيلم (أو هكذا ادعى)، وردا عليه قام الممثل فوكس بنقد لي على ما ذكره، وكل هذا قبل أن يفتح المهرجان أبوابه، أما داخل المهرجان وبمناسبة حضور جايمي فوكس، فإن معظم الصحافيين الذين قابلوه سألوه المزيد من رد الفعل، وهو لم يتأخر.. قبلة على خد سبايك لي الأيمن مادحا إياه كمخرج «رائع»، ثم صفعة على الخد الأيسر لأن المخرج سمح لنفسه بنقد الفيلم من دون أن يشاهده.

المواقف كانت أبسط قليلا في الستينات عما هي عليه اليوم، على الأقل بالنسبة لما يوحي به فيلم مشترك في مسابقة المهرجان التسجيلية الأميركية (هناك مسابقة للأفلام التسجيلية الدولية). هذا الفيلم هو «عشرون قدما بعيدا عن الشهرة» لمخرج باسم مورغن نيفيل يتناول فيه عددا كبيرا من مغنيي «الصول ميوزك» (وهو نوع كان اشتهر في الستينات أكثر من أي عقد سواه) الذين بقوا مغمورين على الرغم من مواهبهم الأكيدة. «الصول ميوزك» هو واحد من الأنواع الغنائية التي زاولها السود رغما عن البيض في تاريخ الموسيقى الأميركية، لكن في حين أن أوتيس ردينغ ومارفين غاي وأريثا فرانكلين والثنائي سام أند دايف وفرقة غلاديس نايت أند ذ بيبس وسواهم أنجزوا شهرة عالمية وباعوا ملايين النسخ من «ألبوماتهم»، فإن هناك الكثيرين ممن بقوا على مسافة من الشهرة على الرغم من موهبته، وهؤلاء هم موضوع هذا الفيلم الجيّد الذي تريد أن تنهض في وسط الصالة لكي ترقص على أنغامه. إنه عن تاتا فيغا وجون غلوريا وسيندي ميزيل وروس ستون من بين آخرين، مع شهادات من بعض أهم فناني النوع، مثل ستيفي ووندر.

الستينات وما قبل تزورنا في أكثر من فيلم آخر بينها، ومن بين ما شاهده هذا الناقد حتى الآن، «اقتل عشاقك» لمخرج جديد (أول مرة) اسمه جون كروكيداس.

هذا فيلم روائي يلمع في مواقف ويخبو في أخرى تبعا لما يحاول المخرج الإقدام عليه ثم التراجع عنه. هو من بطولة شخصيات عرفتها الأربعينات والخمسينات والستينات وشبعت منها السينما في السنوات الأخيرة ومنها الشاعر ألن غينسبورغ والكاتب ويليام بوروز والصحافي والروائي جاك كيروياك. جميعا (وسواهم) من طليعيي الـ«بيت جنيراشن» كل في وسيلته ومجاله. يقدم الفيلم لنا الممثل داين ديهان في دور لوسيان كار أحد رواد تلك الموجة وصديق قديم للكاتب ويليام بوروز. ولوسيان كار هو الذي جذب ألن غينسبورغ (يلعبه دانيال ردكليف في اتجاه بعيد كلـيا عن ذاك الذي اشتهر به في دور هاري بوتر) إلى الحلقة التي يتداول الفيلم الانتقال بينها محاولا رسم ذلك الإطار الاجتماعي لتلك الفترة وما تخللته من مواقف شخصية. دراميا يبقى فارغا وجماهيريا قد ينتهي في القاع كما انتهى في العام الماضي ذلك الفيلم المأخوذ عن مذكّرات جاك كيروياك (يؤديه هناك جاك هستون) «على الطريق». الفيلم يتضمن مواقف جنسية، كون كل المذكورين كانوا مثليين أو مزدوجي الميول. والجنس بالفعل موجود على شاشة أكثر من فيلم هنا أحيانا على نوع لا يخرج من طابع الرغبة في إثارة الاهتمام، وأحيانا أقل على نحو كان لا بد من ضروريته تبعا لموضوع الفيلم. جيمس فرانكو، وهو ممثل معروف عنه انفتاحه على المواضيع الجنسية، نراه ممثلا في «لفلايس» (يلعب دور الناشر هيو هفنر في فيلم يدور حول ممثلة البورنو ليندا لفلايس) ونتابعه منتجا في تسجيلي بعنوان «كينك» (Kink) ونراه مخرجا لفيلم يحمل عنوان «مشهد داخل: حانة جلدية» الذي يدور حول صنع فيلم «تجوال» الذي أخرجه وليام فريدكن سنة 1980 عن مجرم يصطاد المثليين. وجيمس لا يدافع عن نفسه حين يقول في مؤتمره الصحافي: «أعتقد أنه لسنوات طويلة قاد العنف الإنتاجات المعتمدة على العنف. الآن حان الوقت لأفلام تسرد القصص من وجهة نظر عاطفية». لا أحد يشتري ذلك على نحو مسلّم به، لكن الظاهرة موجودة بلا ريب، ولا تستطيع إلا أن تشارك البعض اعتقادهم بأن فيلما لممثل آخر ينتقل إلى الإخراج (دون أن يترك مهمة التمثيل) وهو جوزف غوردون - ليفيت، لا بد أن يصيد نصيبا من النجاح الجماهيري حتى وإن كان ضئيلا. الفيلم، وعنوانه «إدمان دون جون» يدور حول رجل استطاب العادة السريّة لدرجة أنه لم يعد يعرف كيف يتعامل مع الجنس الحقيقي. الفيلم يحمل نبرة كوميدية، لكنه ليس كوميديا على الإطلاق.