مجلة «الآداب» تحتجب ورقيا بعد 60 عاما من المعارك الأدبية

رنا إدريس: نعيش مرحلة لم نشهد مثيلا لها منذ اختراع المطبعة

TT

اليوم يوزع على المكتبات العدد الأخير من مجلة «الآداب» التي تودع قراءها بعد ستين سنة من المعارك القومية والفكرية. «الآداب» التي على صفحاتها كتب كبار الأدباء والمفكرين العرب، وحملت هموم الأمة وآلامها وقضاياها، لم تعد تقوى على الصمود، أمام التغيرات العربية الجذرية. فرغم كل الانتقادات، التي وجهت لها، بقيت «الآداب» بالنسبة لكثيرين منبر قصيدة التفعيلة، والمكان الذي تعرفوا من خلاله على الفكر اليساري والوجودي الأوروبي. وعند وفاة مؤسسها سهيل إدريس كتب جمال الغيطاني: «مجلة (الآداب) واحدة من أهم المجلات الثقافية في القرن العشرين، والتي استمرت معنية بأمر ثقافة واحدة غير مجزأة، تعبر عن وجدان واحد».

لكن الظروف تغيرت اليوم بحسب ما تشرح لـ«الشرق الأوسط» رنا إدريس، مديرة «دار الآداب» وهي الممول الأساسي للمجلة: «أسواق العراق أغلقت في وجهنا وبعدها تونس، ومن ثم ليبيا، ومصر، وأخيرا سوريا التي كانت تشتري ما يقارب ربع كمية الأعداد. ومع ذلك كان ثمة حرص على إيصال المجلة إلى سوريا، لذا كانت تنشر الملفات الخاصة بسوريا كاملة على موقع المجلة الإلكتروني، ولكننا صرنا نتساءل ولماذا لا نفعل الشيء نفسه لتونس والعراق، وغيرها». وتتابع إدريس بالقول «في الأصل انخفض عدد القراء الورقيين بشكل ملحوظ، وتغيرت الاهتمامات، وجاءت الثورات العربية التي شلت الأسواق، لتقضي على ما تبقى».

وكان سهيل إدريس مع شريكين آخرين، قد أطلق العدد الأول من المجلة عام 1953 في عز فورة القومية العربية، ومضت المجلة صعدا تواكب القضايا وتنشر النصوص الأدبية، بدفع من إدريس الذي كان صاحب قلم حاد وأسلوب قوي، ومواقف مشاكسة. لكن سهيل إدريس قبل وفاته في فبراير (شباط) 2008 راودته فكرة إيقاف المجلة التي أصبحت خاسرة، ولا تؤمن مدخولها، فيما أصر ابنه سماح الذي كان قد تخرج من الولايات المتحدة الأميركية أن يكمل المشوار، وانتقلت إليه رئاسة تحريرها. منذ سنوات أطلق سماح صرخة يطلب بها من العرب الاشتراك في «الآداب»، ويحض المكتبات العامة لا سيما تلك التابعة للجامعات وخاصة كليات الآداب في العالم العربي على أن تقوم بواجباتها. لكن القراء والمشتركين بدل أن يزيد عددهم انخفض، بفعل عوامل كثيرة، طرأت على المشهد العام. السنة الماضية صارت المجلة تصدر كل شهرين بدل أن تكون شهرية، ثم تناقصت أعدادها لتصير فصلية، وليعلن رئيس تحريرها في عدد الخريف الذي يصدر غدا، متأخرا عن موعده، أن النشر يدخل مرحلة جديدة معتبرا أن «على النشر العربي الملتزم أن يقوم بثورته» الخاصة.

وإذ تعذر الاتصال برئيس تحرير مجلة «الآداب» سماح إدريس بسبب سفره فإن شقيقته رنا التي تدير «دار الآداب» تعتبر أن التمويل ليس هو المشكلة الأصل، فالمجلة لا تغطي نفقاتها منذ زمن طويل والدار من الصلابة والمتانة بحيث بمقدورها أن تساند المجلة، لكن هناك «إعادة نظر شاملة. نحن على مفترق ثقافي كبير، ويجب أن نتخذ قرارات مصيرية».

وقالت إدريس إن «المجلة ستحتجب ورقيا، لكن البحث جارٍ لإعادة نشرها إلكترونيا وبأفضل صيغة ممكنة، وذلك بقراءة التجارب العربية والأميركية والأوروبية في هذا المجال والاستفادة منها. خاصة أن المواقع الثقافية أصبحت كثيرة، ولا بد لـ(الآداب) حين تعود إلكترونيا أن تكون متميزة ومؤثرة». وتكمل إدريس شرحها كاشفة أن «دار الآداب نفسها بدأت تعمل على النشر الإلكتروني وأنها بدأت بتحضير ما يقارب خمسين أو ستين كتابا من أرشيفها الذي صار كلاسيكيا لتصدر مكتبتها الإلكترونية ربما في الربيع المقبل». وتضيف: «مع علمنا التام بالمخاطر. فالعالم العربي ليس فيه حقوق نشر أو حقوق مؤلف، لكن لم تعد أمامنا من خيارات سوى الدخول في الميدان».

وتحدثنا إدريس عن نقد ذاتي تقوم به المجلة لا بل الدار بأسرها. «نحن نسائل أنفسنا، لماذا لم نتمكن من جذب القراء؟ وكيف نتفادى هذا في النسخة الإلكترونية لاحقا؟ هل علينا أن نتطلع إلى كتّاب جدد؟ ومن أي نوع من الكتاب؟ ما مواصفاتهم؟ لا بد من إعادة النظر بالمشروع الثقافي كله. نحن أمام ظاهرة شاملة، وعلينا دراستها وتحليلها. فالظرف الذي نعيشه مع التطور الإلكتروني لم يشهد له العالم مثيلا منذ ظهور المطبعة. وعلينا أن نستوعب هذه الحقيقة وننجح في التعامل معها».

لا تخفي رنا إدريس أن التوجه اليساري والقومي للمجلة لم يعد هو السائد في المنطقة العربية. «وأنا كناشرة» –تقول - «ألحظ أن عددا كبيرا من الروايات الأخيرة تتحدث عن هذا الإحباط القومي عند الكثير من الكتاب، بعد أن حلموا بثورات لم تأتهم بما توقعوه».

وتذكر رنا إدريس بأن المجلة صدرت طوال ستين عاما، وأرشيفها كبير وغني، وسيكون هناك عمل كثير لمكننة هذا الأرشيف وليصبح في متناول قراء الموقع الإلكتروني حين يتم إطلاقه. وبالتالي فإن «دار الآداب» تعمل ومهماتها كبيرة، واحتجاب المجلة ليس سوى مرحلة سيتم تجاوزها إلى ما هو أفضل.