المقاهي الإيرانية في الهند ظاهرة تاريخية وحضارية مهددة بالاندثار

أسسها الإيرانيون من طائفة البارسي في أوائل القرن الماضي وانتشرت في شبه القارة

مقهى «كياني» الذي تأسس قبل أكثر من قرن
TT

تحولت المقاهي الإيرانية - الرابط الثقافي بين الهند وإيران في القرن التاسع عشر - إلى معلم أساسي في أفق وثقافة مدينة مومباي؛ فمقابل 40 روبية (80 سنتا) فقط يستطيع المرء الاستمتاع بوجبة في هذه المقاهي الفارسية المعروفة باسم «المقاهي الإيرانية».

أقيمت المقاهي الإيرانية في مومباي وكراتشي (ضمن باكستان الآن) بعد قدوم مالكيها الإيرانيين من أبناء الطائفة الزرادشتية إلى الهند في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

تقول الروايات الخاصة بتطور هذه المقاهي إنه خلال الأيام الأولى لهم في الهند، عمل الإيرانيون (الجيل الثاني من المهاجرين الإيرانيين) في مقاهي أبناء الطائفة البارسية (الجيل الأول من المهاجرين) وبعد ذلك بدأوا يتجمعون في الأمسيات لاجترار الذكريات بشأن مسقط رأسهم. كانوا يجتمعون في كل أمسية حول أكواب الشاي والقهوة الساخنة ويتبادلون الحديث عن الماضي وبلادهم وطموحاتهم. وحدث في إحدى الليالي أن قدم أحدهم الشاي للجميع وتقاضى منه مبلغا ضئيلا من المال، ومن ثم ولدت المقاهي الإيرانية الشهيرة.

انطلقت المقاهي الإيرانية من مومباي إلى غالبية المدن الهندية، من بين هذه المقاهي القليلة التي لا تزال قائمة وتحظى بشهرة واسعة مقهى «كياني» الذي أنشئ قبل 106 أعوام، المعلم التراثي في جنوب مومباي. وقد أدار المقهى ثلاثة أجيال من عائلة واحدة وتقدم كعك ماسكا، المصنوع من الخبز والزبدة وباني كام شاي (شاي إيراني قوي) أو كاري شاي (شاي قوي جدا) وبيري بولاو (الخضراوات المدخنة) والخضراوات والدجاج المتبل مع العدس والبرياني.

أنشئ مقهى «كياني» عام 1907، ويديره سمير شكري أحد أبناء الجيل الثالث الذي ترك عمله كمشرف مبيعات في شركة «لندن بلزنر» ليتفرغ لإدارة المقهى عام 1999 ويشارك في استمرار هذا الإرث.

ويقول شكري: «نجني ربحا ضئيلا، حيث يمكن للشخص العادي دفع ثمن المنتجات، وسوف نظل ملتزمين بأسعارنا طالما كان ذلك بمقدورنا. الناس تطلب منا ألا نغلق؛ لأن (كياني) مؤسسة، وأشعر بأنها ينبغي أن تكون معلما تاريخيا. وإذا ما أولت الحكومة اهتماما للمكان فسوف يشكل ذلك فارقا».

وتقول شاهناز، إحدى رواد المقهى: «فطيرة الكرز هنا رائعة. فالفطيرة التي تباع بـ18 روبية تكفي شخصين، فهي سميكة ودسمة وباردة، والكرز يفيض على سطحها. ويلقى بسكويت الخاري بالجبن ومربى جوز الهند وبسكويت اللبن إقبالا كبيرا هنا».

تمتلئ الخزائن الزجاجية بالكعك الملون، كعك ماوا، وكعك البرقوق الذي يلقى رواجا بين زبائن المقهى يدفعك لتجربته، أما فطائر الخيما ولحم الضأن في هذه الأماكن فهي الأفضل، حيث يرغب غير النباتيين في تناولها.

ويقول باتيل، أحد رواد «كياني» المنتظمين منذ 25 عاما: «الشيء الجيد هو أن الأسعار لم تتغير كثيرا بمرور السنين. قد يغيب الخيال عن المكان، لكن الجو العام مثير للبهجة».

هناك أيضا مخبز «يازداني» الذي أقيم قبل مائة عام، الذي كان أحد أشهر المخابز في آسيا في الأربعينات، ويقال إن كعك الزفاف الذي يعده كان يصدر إلى اليابان. ويقول زند إم زند، مالك مخبز «يازادني»: «صوت خبز البارن كالموسيقى بالنسبة لي». وأشار إلى أن حب الإيرانيين لمساعدة الآخرين هو ما يجعلهم حريصين على خفض الأسعار.

ينتج المخبز قائمة طويلة من المأكولات الشهية منذ ما يقرب من مائة عام، ولا يزال العملاء التقليديون يحضرون إلى هنا لشراء خبز الزبد المقرمش، والبسكويت المملح متعدد الطبقات، والشاي الإيراني، والحليب الدسم، والشاي المحلى بنكهة الهيل.

ويقدم مخبز «ساساني» و«بولانغري» عجة أومليت لذيذة (25 روبية) وأكوري (البيض المخفوق مع التوابل) منذ عام 1913، ويفسر شاروك أحد الشركاء ذلك بأن المخبز حصل على اسمه لأن أصحابه ينحدرون من السلالة الساسانية الإيرانية. ويلقى مخبز «ساسانيان» رواجا كبيرا بين المشاركين في سباقات الخيول والفرسان والمتعاملين في سباقات الخيول.

كما يشتهر مطعم «مروان» الإيراني الذي أنشئ عام 1914 في جنوب مومباي بحلوى البودنغ التي تباع ككعك ساخن وتنتهي في الصباح ذاته، وتكلف ما بين 8 إلى 10 روبيات.

هل تتوقع أن يحتفظ المخبز بنفس القائمة طوال 91 عاما؟ تم استيراد المقاعد الموجودة في المقهى من تشيكوسلوفاكيا وأسطح الطاولات الرخامية من إيطاليا، وهو الأمر الذي لا تجده في الكثير من المقاهي هذه الأيام.

وتناضل هذه المقاهي للحفاظ على وجودها، لكن المنافسة من المقاهي الحديثة ومطاعم الوجبات السريعة أزاحت هذه المقاهي عن موقع الصدارة، فأجبرت بعضها على إغلاق أبوابها، وتحول البعض الآخر إلى حانات أو مطاعم. وأصبح الشباب الإيراني الذي حصل على تعليم عال أو مهارات أفضل أكثر اهتماما بالوظائف التي تدر دخلا أعلى في الهند وخارجها، ولا يرغبون في حمل إرث المقاهي الإيرانية التي يملكها آباؤهم.

أحد هذه المقاهي التي تمكنت من الاستمرار حتى وقتنا الحالي، مطعم ومقهى «الجيش»، كان مكتظا بالزبائن خلال طعام الإفطار عندما زارته المراسلة. وكان علي محمد، صاحب المطعم، يصرح بأعلى صوته (يصب اللعنات) على العاملين في المطبخ للإسراع في تقديم شاي كوما باني (شاي يحتوي على ماء أقل ولبن أكثر). ويقول إنه في عام 1936 كان الجيش البريطاني يقيم في المبنى وهو ما جعل اسم «مقهى الجيش» يلتصق بنا.

وبحسب محمد، كان التهديد الأبرز لمطعمه المشاحنات بين أبناء مالكي المطعم الأصليين حول صفقات عقارية مربحة بعدة ملايين من الدولارات لشراء المقاهي الإيرانية التي تشغل عقارات هامة؛ فهذه المقاهي تشغل على الأغلب إحدى نواصي المبنى أو ناصيتين منه.

يتسم الطابع التقليدي لهذه المقاهي باللمسة الاستعمارية الخفيفة؛ من الأسقف المرتفعة والمقاعد الخشبية السوداء (خيزران في بعض المقاهي)، والطاولات الخشبية ذات الأسطح الرخامية والأواني الزجاجية التي تكشف عن الأطعمة اللذيذة التي تحويها، إضافة إلى المرايا الضخمة على الحوائط لخلق شعور بالمساحة، وتستقبل الزبائن برائحة المخبوزات الشهية. سرعة تقديم الأطباق مؤثرة والخدمة مجانية.

يرتاد هذه الأماكن في العادة الطبقة العاملة، وهذه المقاهي تجتذب عددا كبيرا من الأفراد؛ لأنها تباع بأسعار زهيدة ونظيفة.

يقدم «مقهى برييانيا» وجبات إيرانية أصيلة، وتأتي على قائمة المطاعم الأكثر رواجا بين مديري الشركات. ويعتبر طبق البيري ومرق دجاج دهانساك والبيرياني الأطباق الرئيسة هنا. داهنساك هي مرق كثير التوابل معروف بقيمته الغذائية الكبيرة، إضافة إلى العدس والدجاج، ويقدم مع شرائح البطاطس المقلية. عادة لا تكتمل وجبة بارسي مطلقا من دون مشروب «ديوكس راسبري» الأسطوري. يمكن تناول «لكن نو كاسترد» وتدليل براعم التذوق في نهاية وجبة حارة. تتراوح تكلفة وجبة غنية لشخصين في «برييانيا» ما بين 150 إلى 200 روبية.

وتتمثل سمة أخرى من سمات المقاهي الإيرانية، وربما سمة لا تزال حية، حتى عندما تختفي من الذاكرة العامة والمناظر الطبيعية سريعة التغير بكل المدن، في لوحة التعليمات المضحكة: «غير مسموح بالحديث إلى مسؤول الخزينة، ممنوع التدخين، ممنوع العراك، ممنوع الشكك، ممنوع إحضار أطعمة من الخارج، ممنوع الجلوس لفترة طويلة، ممنوع الحديث بصوت مرتفع، ممنوع البصق، ممنوع المساومة، ممنوع تقديم الماء للغرباء، لا عملات من فئة صغيرة، ممنوع الاتصالات الهاتفية، ولا أعواد ثقاب ولا مناقشات لمراهنات، ممنوع الشكاوى، ممنوع وضع الساق على المقعد، ممنوع احتساء الشراب المسكر، ممنوع الاستفسار عن عناوين، وجميع رجال الدين يلقون الترحيب». قصيدة الشاعر نسيم حزقيال لعام 1972 «تعليمات المطعم الإيراني»، التي تذكر بأن اللوحات التجارية الصارمة ليست سمة تحظى بالترحيب بالمقهى الإيراني.

يروي بومان كوهينور، صاحب مطعم «برييانيا» البالغ من العمر 89 عاما، أن هذا المطعم قد أسسه والده، عندما ولد في عام 1923، ويقول: «ما زلت أستمتع بالقدوم إلى مطعمي والجلوس هنا لبضع ساعات لمقابلة عملاء قدامى». يتولى أبناؤه إدارة الشؤون اليومية.

يقول رومان كوهينور: «في العقد السادس من عمري، كان هناك 350 مطعما إيرانيا.. أتذكر أنني كنت أعدها بنفسي. اليوم، لم يعد هناك سوى 25 مطعما متبقيا».

السؤال المهم هو: هل ستظل تلك المطاعم الخمسة والعشرون قائمة على مدى جيل آخر؟

الأبناء متعلمون ويرغبون في السفر للخارج. إن العمل هنا يعني مزيدا من العمل وعائدا أقل، فيما يرغبون في النقيض، بحسب كوهينور. ويقول له أبناؤه إنهم سيغلقون المطعم بعد وفاته.

إن الكارثة الكبرى في الاختفاء البطيء للمقاهي الإيرانية لا تتعلق فقط بفقدان مصدر ميسور التكلفة وموثوق فيه لمطبخ مميز. نظريا، يمكن إعداد ذلك الطعام في أي مكان. تتمثل الخسارة الكبرى في الثقافة والتقاليد المصاحبة؛ إذ إن كل مقهى إيراني يعتبر نموذجا مصغرا من تراث ثقافي وأخلاقيات مميزة، تراث وأخلاقيات تشكلت على مدار آلاف السنين عبر مزيج من الثقافات امتدت على طول «طريق الحرير». لن تكون تجربة تناول طعام في مقهى إيراني أصيل يملكه ويديره إيرانيون لهم أصول في يزد وكيرمان مماثلة مطلقا للتجربة في أي بيئة أخرى.

وعلى نحو أكثر ارتباطا، يحاكي اندثار المقاهي الإيرانية التهديد لمجتمع بارسي بأكمله، الذي يشمل الآن 70 ألف شخص يعيشون في مومباي.

إن جماعة البارسي، بين أصغر الأقليات العرقية في الهند، قد ساهمت على نحو متباين في بعض أكثر قصص النجاح المبهرة في الهند. على سبيل المثال، يشغل راتان تاتا، رئيس مجلس إدارة «تاتا»، واحدة من كبرى الشركات في آسيا. أنشأ سلفه جيه آر دي تاتا، صناعة الطيران المدني في الهند. وكان سام مانيكشو أول مارشال في الهند ورئيس أركان. كان زوبين ميهتا من قبل قائدا لأوركسترا الفيلهارمونية في نيويورك. ولا ننسى فريدي ميركوري الراحل، الذي ولد باسم فاروخ بولسارا، المغني الرئيسي الأسطوري لفريق الروك «كوين».