«القواسم» آخر معاقل الصيد بالصقور في المغرب

اهلها يأملون أن تتحول الى وجهة سياحية ويتطلعون الى تنظيم مهرجان دولي فيها

صقاران في منطقة القواسم جنوب الدار البيضاء («الشرق الأوسط»)
TT

تعد رياضة الصيد بالصقر أو «الطائر الحر» كما يسميه المغاربة، هواية متجذرة في عمق التاريخ الإنساني، مارسها «الهنود الحمر» في أميركا وشعوب شمال الصين ومنغوليا وقبائل الجزيرة العربية منذ قرون.

في المغرب تعد منطقة «القواسم» التي تقع شرق مدينة الجديدة (جنوب الدار البيضاء) آخر معقل للصيد بالصقور. وأملا في أن تتحول إلى وجهة سياحية وتراثية يحرص أهل المنطقة على الحفاظ على تقاليد الصيد بالصقور، حيث يعتزون ويتفاخرون بتربية وتدجين ورعاية وترويض وتدريب الصقور طبقا لتقاليد متوارثة عن الآباء. هذه المنطقة هي في الأصل منطقة زراعية، يزاول سكانها الزراعة وتربية الماشية، بالإضافة إلى هوايتهم المفضلة وهي الصيد بالصقور.

الطريق إلى «القواسم» يمر عبر منطقة «طازوطا»، وهي عبارة عن بنايات متناثرة على طول الطريق، حجر فوق حجر من دون إسمنت أو رمل أو حديد، ويطلق عليها المحليون «طازوطا» وتعني لديهم «نافورة ماء» مقلوبة على سطحها.. حيث يقال إن الإنسان استقر في هذه المساكن الفريدة منذ قرون بعيدة، وهذه البيوت شاهدة على تاريخ الاستقرار البشري في المنطقة، لكنها أصبحت اليوم في عصر التمدن أطلالا مهجورة.

توجد في المنطقة قصبة «بولعوان» التي شيدها السلطان المولى إسماعيل أحد الملوك البارزين في تاريخ المغرب، وكان بدوره مولعا بالصيد بالصقور. الطريق نحو قبائل القواسم وعر وصعب المسالك، في منطقة قبيلة «السماعلة» التقت «الشرق الأوسط» أبرز شيوخ الصيد بالصقور ويدعى عبد الله الكريني، ورغم تقدمه في السن (أزيد من 80 سنة) لا يزال يهتم بصقره بل ويناجيه. سألته «الشرق الأوسط» عن ذكرياته مع الصيد بالصقور، فقال إنه تعلم هذه الهواية منذ نعومة أظافره على يد معلمه بن عثمان ومنذ ذلك الوقت وهو مهووس برياضة الصيد بالصقور. وأضاف أنه «في كل خيمة تجد هذا الطائر، وأول ما يشتري رب أسرة في السوق الأسبوعية (الحمام) الطعام للطير قبل شراء طعام لأبنائه». وعن تدريب الصقر يقول الكريني «تستغرق مهلة التدريب أسبوعين أو ثلاثة أسابيع حسب قابلية الصقر وطريقة التلقين. وأهم درس ينبغي أن يتعلمه الصقر هو إطاعة أوامر مدربه والتعود على سماع صوته وتمييز وجهه، وتبدأ بتغطية عيني الصقر لمدة أيام، حيث يلازم الصقار صقره على مدار الساعة يحمله معه وينادي عليه باسم يختاره له وتدخل هذه العملية في إطار تدجين وتهذيب الطائر الكاسر، وتدريبه على الجلوس فوق قفاز الصقار حيث يطعمه بيده. وبعد ثلاثة أيام يتعود فيها الصقر على صوت مدربه، وعند إزالة غطاء العينين يكون أول شيء يراه الصقر هو الرجل الذي كان يسمع صوته ويطعمه بيده، وبعد فترة وجيزة يطلق الصقار الطائر ليحلق بضعة أمتار لالتقاط الطعام وهو مربوط بخيط رقيق وسميك بقفاز مدربه، ثم تزاد المسافة وتعاد الكرّة بين الفينة والأخرى، وهكذا تتوطد علاقة الثقة بينهما حتى يأتي اليوم الذي يترك فيه للطائر أن يحلق بحرية كاملة في السماء ومن دون خوف ثم يرجع إلى صقاره».

ومن بين شيوخ الصيد بالصقور الصقار سعيد صادوق (70 سنة). يقف صادوق بجسده النحيل وهو يحمل على كتفه صقره وعلى كاهله ثقل سنوات العمر، مارس هواية الصيد بالصقور لمدة نصف قرن. سألته «الشرق الأوسط»: «من أين تأتون بالصقور؟»، أجاب: «من جزيرة الطيور» التي توجد على شاطئ مدينة الصويرة وهي ذات شهرة واسعة في عالم الطيور الكواسر حيث يوجد الحمام الخلوي بكثرة. وحول طرق صيد الصقور، يقول صادوق «هناك طريقتان تقليديتان، الأولى أن يختبئ الصياد داخل حفرة أو غار حتى لا ينتبه إليه الصقر ثم يعمد إلى إظهار حمامة تكون مربوطة بخيط من ساقيها وهي الطعام المفضل لدى الصقر، وما إن ينقض عليها حتى يفشل في حملها والطيران بها لكونها مربوطة بخيط يمسك به الصياد، مما يضطر الصقر إلى أكل الحمامة في موقعها. ولأن الفريسة الحمامة تكون في اتجاه الرياح، الأمر الذي يجعل الصقر يدير ظهره للصياد المختبئ، عندها يبدأ الصياد في جذب الخيط المربوط إلى الحمامة إليه بهدوء والصقر من فوقها إلا أنه ينخدع عندما يعتقد أن الحمامة لا تزال على قيد الحياة فيبدأ في مهاجمتها مجددا بشراسة، بينما يواصل الصياد سحبها نحوه حتى يفاجئه فيمسك بساقيه ثم يغطيه برداء.. وهناك وسيلة أخرى وهي طريقة الصيد عن طريق الشبكة، حيث يعتمد الصياد على وضع حمامة مربوطة من قدميها بخيط طويل ونظرا لأن الصقر (طائر انتهازي) ينجذب بشدة إلى الفريسة الضعيفة التي تكون عرضة للخطر، ويسارع إلى اقتناصها، وبينما هو يفترسها تعلق مخالبه بالشبكة التي تغلق منافذها عليه فيقع في قبضة الصياد، حيث تبدأ عملية الاهتمام به وترويضه».

اهتمام المغاربة بالصقور ليس وليد اليوم، إذ جاء في كتاب «القنص بالصقور بين المشرق والمغرب» للمؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي، أن سلاطين المغرب اهتموا بالصقور وأصدروا مراسيم ملكية بشأنها. ومن عيون شعر الملحون قصيدة «الطرشون»، وهي كلمة إسبانية معربة معناها «فرخ الصقر». كما أشاد بعضهم في قصائده بمهارة الصقر في مطاردة الفريسة، ومدح أحدهم صقره الذي كان يلازمه ملازمة الحبيب لحبيبه.

وهناك قصائد رثاء لبعض الصقور كتبها أصحابها. وأهم قصيد قيلت في الصقر هي قصيدة القاضي إبراهيم الفجيجي، وكانت بعنوان «روضة السلوان» وتشتمل على أزيد من مائتي بيت يقول مطلعها:

يلومنني في الصيد والصيد جامع.. لأشياء للإنسان فيها منافع ويشير التازي إلى شيوع هذه الهواية عند ملوك أوروبا وملوك الأندلس من العرب والفرنجة، ومن أقدم الوثائق التي يشير إليها المؤلف رسالة بن كماشة وزير ملك غرناطة إلى ألفونسو ملك أراغون، ورسالة أخرى من أبي الحجاج يوسف ملك غرناطة إلى أبي عنان سلطان فاس.

وجاء في إحدى الرسائل: «كنا تعرفنا في سلف من الأيام أن لملككم اهتماما بجوارح الصيد من الطير على شاكلة الملوك الكبار، فاخترنا لكم جملة منها وهي ما سيصلكم مع رسولنا».

لعبت الصقور دورا كبيرا في توطيد العلاقات التجارية بين المغرب وبريطانيا، حيث يتحدث الدكتور التازي عن رسالة من شارل الأول ملك بريطانيا جوابا عن هدية فخمة بعث إليه بها سلطان المغرب جاء في ديباجتها «وصلت رسالتكم وهدية الصقور مع خادمنا جايلزين، فأمرنا أن يعود إليكم ليبلغكم شكرنا آملين أن تأذنوا له بأن يأتي لنا من بلادكم بصقور أخرى وخيول من أحسن ما عندكم».

وحسب رسالة مؤرخة بتاريخ في أغسطس (آب) عام 1512م فإن قائد أسفي يحيى أوتاعففت كان يتودد إلى القائد البرتغالي نونيوفيرنانديش بإهدائه نوعا من الصقور يعرف باسم «النبلي». وعندما كان السلطان أحمد المنصور الملقب بالذهبي، وهو من الهواة الممارسين للصيد بالصقور، يضع تصميمه لقصره الشهير في مراكش المسمى بالبديع عمد إلى وضع الصقور والنسور في مقدمة الحيوانات المحنطة، التي تزين الواجهات والأركان من فهود وأسود، وهي ظاهرة تدل على انشغال المنصور بأمر الطيور.

كما يحدثنا كتاب التازي أن السلطان مولاي عبد الحفيظ أوفد في عام 1910 بعثة إلى تركيا من أجل اقتناء تشكيلة من الصقور المدربة، ونشرت صحيفة فرنسية عام 1912م صورة للسلطان مولاي عبد الحفيظ أثناء رحلة صيد وبجانبه عدد من البيازين على خيولهم وهم يحملون صقورهم على أياديهم، كما أن ملك المغرب محمد الخامس كانت له هواية الصيد بالصقور، وجاء في رسالة بتاريخ 1941م بعث بها إلى وزيره الأول الحاج محمد المقري يطلب فيها التعجيل بإرسال طيور الصيد.

وعن الجوانب التي يجب على الصقار أن يكون على علم بها، يقول محمد الغزواني رئيس جمعية الصيد بالصقور في «منطقة القواسم أولاد فرج»: «لا بد من تدابير وقائية ومعرفة العلاجات المستعملة لأمراض الصقور، حيث ينبغي على الصقار ملاحظة صقره عن كثب ويقوم بتنظيف مخالبه وبتعويمه في الماء حتى يحافظ على نشاطه الحيوي، فإذا لاحظ أن الصقر يضرب برأسه على صدره فذلك رسالة على أن الصقر مصاب بصعوبة التنفس، وإذا انعدمت شهيته للأكل فذلك إشارة على أن الصقر مصاب بالتخمة، أو بقرحة المعدة، كما أن الصقار يعرف الوضعية الصحية للصقر عن طريق فضلات طائره». وبشأن طرق العلاج يقول الغزواني «في غياب الأدوية المختصة يلجأ الصقارة في منطقة القواسم إلى طرق تقليدية منها التداوي بالأعشاب وغالبا ما تكون الوصفة مكونة من الثوم والملح».

وعرف المغرب عبر تاريخه مصحين خاصين لعلاج الطيور والصقور، الأول كان بمدينة فاس في عهد السلطان أبي عنان (الدولة المرينية) في القرن الثامن الهجري، والثاني بمدينة أسفي في القرن الثالث عشر في عهد السلطان المولى إسماعيل ثالث ملوك الدولة العلوية. وكان بها مصحان لإيواء الطيور والاهتمام بها حيث تطعم وتسقى وتعالج من طرف أطباء مختصين بشؤون الطير وأمراضه وأعراضه.

وعما يميز الصقر المغربي عن غيره، يقول محمد الغزواني إن تقلب أحوال الطقس لا يؤثر في الصقر المغربي فهو يتأقلم عبر فصول السنة الأربعة، كما أن الصقر يعيش عشرين سنة عندما يكون عند الصقار في حين يعيش 14 سنة إذا كان صقرا خلويا. ويشير الغزواني إلى أن أهم المشكلات التي تواجه رياضة الصيد بالصقور، هي غياب الدعم المادي من طرف الجهات المهتمة بالسياحة وبالتراث، إذ الصقار في الأصل فلاح بسيط يعتمد على الزراعة وتربية المواشي، في حين يتطلب الصقر مصاريف إضافية لتوفير وجبتين في اليوم.

وقال الغزواني إن الجمعية تسعى إلى تنظيم مهرجان وطني خاص بالصيد بالصقور للتعريف بهذا الموروث الثقافي الإنساني الذي تميزت به قبائل القواسم عبر السنين، على أساس أن يتطور المهرجان المحلي إلى مهرجان دولي لتبادل الخبرات، وخاصة بين المشرق والمغرب.

كما ترغب الجمعية في إنشاء متحف خاص يحفظ وثائق وأدوات وأنواع الصقور مع خلق محميات خاصة بتربية الطيور والصقور تستقطب السياح.