رئيس أكبر مجموعة مصرفية يقتني 450 قطعة أثرية تعود لقرون سحيقة

جمعها من دول غرب أفريقيا طيلة 35 عاما ويعرضها في مكتبه بفيينا

هيربرت استبيتش يشير إلى بعض المنحوتات («الشرق الأوسط»)
TT

«هذا قناع يستخدمه سلاطين قبيلة اليوروبا ثاني أكثر القبائل النيجيرية عددا، أما هذه التماثيل فهي لزعيم كاميروني بصحبة زوجته المفضلة وهما في مسيرة رسمية لزيارة زعيم آخر يصحبهما ثلاثة موسيقيين وهي معمولة من النحاس الخالص الذي لا يتوفر إلا في دولة بنين (سوى قليل منه يتواجد بجزيرة جاوا بإندونيسيا)، وذاك مقعد ملوكي بجانبه تاج لفنان مشهور نحته قطعة قطعة ومن ثم ركبه يدويا».

هكذا، بدأ هيربرت استبيتش رئيس مجلس إدارة بنك رايفايزن إنترناشيونال، يحكي بمنتهى التفصيل والاهتمام لـ«الشرق الأوسط» عن مخزونه وبالأصح عن ثروته من أعمال فنية ومنحوتات وتماثيل ومجسمات جمعها من دول غرب أفريقيا طيلة 35 عاما، وصل عددها الآن 450 قطعة منها ما يعود لقرون سحيقة قبل الميلاد ولحضارات اندثرت ومنها ما هو حديث نسبيا مما يجعلها فريدة ومتنوعة ونادرة. طيلة حديثه رفض استبيتش كل الرفض الإفصاح عن أو حتى تقدير المبالغ التي دفعها مقابل الحصول عليها (رغم أنه رجل مصارف وبنوك يتعامل بالأرقام والأموال) مكتفيا بالتأكيد أن أسعارها تتفاوت وأنه ما يزال يشتري.

وكانت «الشرق الأوسط» قد التقت الدكتور، هيربرت استبيتش، رئيس أكبر مجموعة مصرفية في وسط وشرق أوروبا بما في ذلك روسيا، بمكتبه بالعاصمة النمساوية فيينا بعد ندوة قدمها عن فن النحت بمنطقة غرب أفريقيا مصطحبا معه مجسمات بديعة من مختلف الأحجام والأشكال وفرها كنماذج لفنون كلاسيكية تقليدية جسمت ارتباطات بأديان وعبادات وممارسات وأساطير وطقوس وشعائر ومناسبات ومواقف وسيناريوهات، بعضها من الطين الفخار المحروق أو المعادن وبعضها الآخر من القماش وأخرى من الخشب، فهي فن راق نتاج حضارة أفريقية أصيلة لا خلاف في ذلك سواء استحوذت على إعجاب المشاهد أم لا.

وعن سبب تكراره أثناء محاضرته لوصف «أفريقيا السوداء» وليس وصف غرب أفريقيا كما يشار للمنطقة تحديدا؟ قال استبيتش: أفريقيا السوداء هو التعبير المستخدم حتى الآن لتمييز المنطقة عن أفريقيا البيضاء المقصود بها دول شمال أفريقيا، مؤكدا أنه وصف لا يعني أكثر من تقسيم جغرافي.

وعن سر إعجابه بالمنحوتات غرب أفريقيا على وجه الخصوص، سيما أن النمسا والنمساويين عموما لم تربطهم بالمنطقة أي روابط تاريخية كغيرهم من الأوروبيين من إنجليز وفرنسيين وبرتغاليين وبلجيك ممن استعمروا وتقاسموا دول الإقليم وما تزال تربطهم بها علاقات «مميزة»...!! قال: إنها هواية بدأت معه منذ أوائل السبعينات عندما عمل بالعاصمة السنغالية أبيدجان خاصة أنه امتلك منذ الصغر اهتمامات واطلاعات وميول فنية مختلفة غذاها فيه والده الذي فقد كل ثروته إبان الحرب العالمية ورغم فقره لم يفقد حبه للفنون وللقطع الفنية الراقية، مواصلا أنه وما أن امتلك شيئا من المال حتى بدأ استثماره في شراء ما نال إعجابه من منحوتات وتماثيل أفريقية جذبته بتعابيرها القوية وأشكالها المثيرة للاهتمام.

ثم توسعت مجالات اهتماماته وقدراته المادية فأصبح يعتمد على وسطاء يثق فيهم وفي خبراتهم خاصة أنهم يعملون في شراء وبيع هذه الفنون مما يوفر عليه وقتا خاصة بعد زيادة مهامه الوظيفية وقلة سفرياته إلى أفريقيا سيما أن أولئك الوسطاء يعيشون طويلا بالمنطقة ويعرفونها ويمدونه بكل المعلومات اللازمة عن القطع المعروضة وتاريخها وقانونية أوراقها وأصل ملكيتها. وأضاف أنه لا يشتري البتة من مزادات.

وعن قانونية عمليات البيع والشراء وفي الذهن ما يدور من اتهامات أن البعض يعمد لاستغلال وتهريب هذه المكنونات الفنية رغم أنها ثروات قومية؟ بادر استبيتش للتأكيد أنه لم يقع مطلقا في مشكلة كما لم يطاله البتة اتهام لكونه ملتزما بأصول بيع قانوني يمتلك كل وثائقه، نافيا شبهة الاستغلال بدعوى أن البيع يتم أحيانا لحاجة بعض الفنانين لأموال يحققون بها احتياجاتهم الشخصية كغيرهم من الفنانين في مختلف دول العالم ممن ينتجون ويبيعون إنتاجهم، كما يتم البيع أحيانا من قبل زعماء وشيوخ قبائل توارثوا تلك المقتنيات ويرغبون في بيعها بغرض توفير سيولة لتمويل خدمات أساسية وخلق بنية تحتية بمناطقهم كرصف طريق أو المساهمة في بناء مدرسة أو مشفى (وأشياء من هذا القبيل) إضافة لرغبة البعض في الخلاص من تماثيل كانت لآلهة وديانات تقليدية انقرضت وما عادوا يؤمنون بها.

إلى ذلك لم يغفل أن ينبه أن عمليات البيع والشراء أحيانا قد لا تتم إذا رغبت «السلطات» في الاحتفاظ بالمعروض.

وعن تهم أخرى بأنه في سبيل تحقيق رغباته يستنزف فنونا قومية وثروات وطنية يجب أن تظل في مواطنها قاطع متسائلا بدوره «لماذا لا تقولين إننا نحافظ على بقائها في أحسن هيئة كما نساعد على نشرها في مجالات أوسع ولقطاعات مهتمة ومتشوقة ما كان بإمكانها التعرف عليها»، مضيفا أن ممتلكاته منها ما يعرضه في مكتبه بالبنك ومنها ما هو محفوظ بصورة جيدة في أماكن أمينة مما يبقيها لأجيال الأجيال، موضحا أنه سبق أن نظم معرضا كبيرا (صرف الكثير على إخراجه بصورة جذابة) بالإضافة لذلك فإنه قدم معلومات دقيقة وصورا أكثر من جميلة ضمنها دليل «كتالوج» من 220 صفحة عن كل قطعة من القطع التي عرضها. ويذكر أنه وبعد المحاضرة التي حضرتها «الشرق الأوسط» عرض كتالوجا جديدا بسعر 30 يورو للنسخة وفي هذا السياق قال: «إن العائد سوف يساعده في تغطية تكلفة جزء من ذلك المعرض».

وعن إمكانية إتاحة عرض ممتلكاته لقطاعات أوسع من العامة في متحف أو صالة عرض، قال: إنه بحث عن متحف أو منظمة طوعية خيرية تساعده على عرضها مجانا بشرط عدم التكسب، إذ يرفض تماما بيع أي قطعة من قطعه ثم واصل مبتسما (إلا لو أصبحت فقيرا) مستطردا أنه ما يزال يشتري رغم أن الأسعار في ارتفاع (وأن كل ما له قيمة قد وصل إلى أوروبا) إلا أنه استدرك قائلا: في يوم من الأيام تعود تلك المقتنيات والأثريات الفنية الأفريقية إلى موطنها أفريقيا سيما وحالات الثراء والتطور التي تشهدها القارة بحكم أن التطور يدفع الشعوب للاهتمام والبحث عن تراثها وثقافاتها وفنونها والاهتمام بها وحفظها، متمثلا بما تبديه مصر من اهتمام بآثارها ومحاولاتها لاستعادة بعضها.