مساع علمية بريطانية لـ«ترويض» السرطان في غضون سنوات

«الخرائط الجينية» تفتح باب توفير العلاج «المفصل» لكل مريض

TT

أكد علماء بريطانيون أنهم يعملون حاليا على مشروع ضخم يهدف لتوفير خريطة «مفصلة» للحمض النووي لكل المرضى في بريطانيا، من أجل تيسير عمل الأطباء في مكافحة أمراض السرطان القاتلة، وتحويل المرض القاتل إلى ما يشبه الأمراض العضوية المزمنة.. ما يسمح بمنح المريض سنوات أكثر من الحياة.

ويوضح العلماء بمعهد بحوث السرطان البريطاني أنهم بصدد تأسيس مركز جديد، بتكلفة نحو 3.2 مليون جنيه إسترليني، يستغل «ثورة» التقدم التي شهدها العالم في مجال رسم الخرائط الجينية البشرية الكاملة، مما يتيح للأطباء المعالجين التعامل مع المرضى بالسرطان بصورة أكثر دقة وفردية؛ حسب خريطته الجينية، وتخصيص علاج مفصل تبعا لحالته.

وبحسب بيان صحافي صادر أمس، يقول الرئيس التنفيذي للمعهد البروفسور آلان آشوورث إن التقنية الجديدة ستسفر عن انتهاء عصر العلاجات الكيماوية التقليدية القديمة، وبدلا من ذلك ستسمح باستحداث واكتشاف علاجات جديدة ومبتكرة للمرض القاتل، كما ستفتح نافذة أمام استخدام عقاقير لم تنتج بالأساس لمعالجة السرطان ولم يكن من المتصور أن يتم استخدامها في علاجه.

وأشار آشوورث إلى أن التقنية الجديدة «ليست خيالا علميا»، وأن الخرائط الجينية البشرية، التي كلفت عملية رسمها للمرة الأولى عشرات الملايين من الجنيهات واستغرقت سنوات، أصبحت الآن متاحة بمبلغ يقدر ببضع مئات من الجنيهات ويتم إنجازها في أيام قليلة.

كما نقلت صحيفة «التليغراف» البريطانية عن آشوورث أن التقنية الجديدة ستمنح مرضى السرطان في مراحله الأخيرة، والذين يتوقع وفاتهم في غضون شهور قليلة، إمكانية أن يحيوا لعقود في صحة جيدة.. وقال إن «السرطان غالبا ما يصيب كبار السن من البشر، وإذا أمكننا توفير فرص الحياة لعدة أعوام إضافية، والوفاة بصورة طبيعية نتيجة لعوامل السن، فإننا نكون بذلك قد حولنا السرطان عمليا من خانة الأمراض القاتلة إلى خانة الأمراض المزمنة».

وعلى الرغم من أن تقنية البحث عن جينيات «معينة» تستخدم بالفعل في الوقت الحالي من أجل تشخيص بعض الأورام السرطانية، فإن ذلك يبقى تطبيقا محدودا للغاية.. حيث يتم على سبيل المثال إجراء اختبارات للبحث عن طفرات جينية لتشخيص أمراض مثل سرطان الثدي لدى السيدات أو بعض الأمراض الجلدية الخبيثة.

لكن المسعى الحديث الذي يسعى العلماء البريطانيون إلى سلوكه يعمل على رصد كل الحالات التي تظهر تحسنا ملموسا في العلاج خلال السنوات المقبلة، ورسم خرائطهم الجينية الكاملة ومتابعتها، من أجل معرفة الجينات المتخصصة التي استجابت لكل علاج على حدة، وسمحت بتحسن حالاتهم.

ومن خلال تلك الدراسات المعمقة، التي يتوقع أن تستمر لنحو 3 سنوات، سيمكن العمل على وضع قاعدة بيانات واسعة ومفصلة ودقيقة لكل الجينات المسؤولة عن حدوث الأمراض السرطانية. ويرى العلماء أنه في خلال تلك السنوات الثلاث قد يبدأ بعض المرضى في الاستفادة الفعلية من النتائج التي يتم التوصل إليها.

ويطمح المعهد إلى أن يصبح رسم الخرائط الجينية إجراء روتينيا لكل المرضى في خلال نحو خمس إلى عشر سنوات، مما يسمح بتعقب الجينات الخاصة بتطور المرض، واستهدافها بالأساليب العلاجية المخصصة. وسيؤدي ذلك التطور إلى إطالة عمر المرضى من جهة، وتحسين الحالة الصحية للمريض؛ نظرا لعدم إرهاقه بدنيا بأساليب علاجية كثيرة من شأنها إتلاف الخلايا والأجهزة الجسمانية.. كما أنه سيسهم في تقليل تكلفة العلاج بشكل جذري، وذلك نتيجة للاستغناء عن استخدام العلاجات التي قد تكون «غير ذات تأثير» على الشخص المريض.

كما أن التقنية الجديدة ستسمح من جانب آخر بإحداث «طفرة» في علام العقاقير الدوائية.. إذ يقول خبراء علم العقاقير إن أي منتج علاجي جديد (حتى الآن) يتم اختباره على آلاف الأشخاص قبل طرحه للاستخدام العام. وخلال تلك الفترة الاختبارية، يتم تقييم أثره العلاجي وكذلك آثاره الجانبية. لكن نتائج اختبارات العقاقير تظل - في أكثر درجاتها تحكما - «غير دقيقة» بشكل مطلق، وذلك نظرا لاختلافات درجات التفاعل بين الأفراد.. أو بمعنى أوضح، نظرا للاختلافات الجينية وتأثرها بتلك العلاجات.

أما التوجه الذي يتصل بالعلاجات الجينية المفصلة، فيعمل على اختبار العقاقير فقط على الأشخاص أصحاب الجينات المتشابهة، وهو ما يعني قدرة أكبر على تقييم الأثر العلاجي وآثاره السلبية كذلك.

وتشمل أساليب العلاج التقليدية الحالية للأورام السرطانية، بحسب المتخصصين، التدخل الجراحي أو الإشعاعي أو الكيمائي، إلى جانب العلاج الهرموني أو المناعي أو باستخدام الأجسام المضادة. ويعتمد اختيار طريقة العلاج على نوع الورم السرطاني، ومكانه ودرجة نشاطه، إضافة إلى الحالة العامة للمريض؛ والتي قد تمنع في حد ذاتها الأطباء من اللجوء إلى أحد الأساليب على الرغم من كونه الأفضل لحالته علاجيا.

ولكن «أغلب» هذه الطرق العلاجية «التقليدية» تحمل آثار جانبية بالغة على النواحي الصحية للمريض؛ إذ تؤثر في معظم الأحوال على أنسجة ووظائف الأعضاء السليمة، وقد تؤدي إلى إتلافها.. وعلى الجهة الأخرى، فإن استخدام التقنية الجديدة يسمح باستهداف «التحور» الجيني غير الطبيعي الذي تحمله الخلايا السرطانية بالأساس، مما يستثني الخلايا السليمة من الأثر الضار. كما أن استخدام العلاج بهذه الطريقة يسهم في التقليل من جرعة الدواء المستخدم، كونه يستهلك بأغلبه في الخلايا المريضة دون غيرها.

ويتبقى بحسب الخبراء مشكلة أخرى يبحثون عن حلول لها، وهي أن الأورام السرطانية أحيانا ما تطور مناعتها و«تحصن» ذاتها ضد العلاجات المستخدمة.. لكن العلماء بالمعهد البريطاني يأملون أن يتم التغلب على ذلك أيضا من خلال المتابعة المستمرة لأبحاث رسم الخرائط الجينية، ورصد تطور الجينات عبر إجراء فحص الأنسجة المستمرة للمرضى، لملاحظة ودراسة مراحل التطور تلك، ومنع حدوثها مستقبلا.