فيلم صيني في انطلاق الدورة الثالثة والستين لمهرجان برلين السينمائي

لجنة تحكيم بوجهات نظر تناسب الأوضاع السياسية

«أرض موعودة» لغس فان سانت
TT

يتردد أن السبب في اختيار فيلم الافتتاح الصيني ليس له علاقة بحقيقة أن مخرجه هو رئيس لجنة التحكيم. لكن حتى ولو كان هذا صحيحا، إلا أنه من المحتمل جدا أن يكون الأمر بدا كما لو كان هدية من السماء: فيلم ضخم الإنتاج (بمقاييس عالمية) اشترته شركة فرنسية لكي توزعه عالميا (هي «وايلد بنش») ويحققه مخرج عرف بتحقيقه أفلاما صينية ناجحة من قبل. لم لا يكون المخرج ذاته رئيس لجنة التحكيم في الوقت ذاته؟

الفيلم هو «سيد كبير» والمخرج هو وونغ كار واي الذي نزحت عائلته إلى هونغ كونغ سنة 1963 وأخذ يعمل في السينما من مطلع الثمانينات ولا يزال. أحد أشهر أعماله «رماد الزمن» (1994 مع نسخة منقحة بعد عامين) الذي جال ما لا يقل عن عشرين مهرجانا دوليا.

هل هي صدفة أن يكون فيلم الافتتاح لمخرج اختير لرئاسة المهرجان، ومن هو الذي تم اختياره قبل الآخر: المخرج أم فيلمه؟

يصب «سيد كبير» في خانتين معا: هو فيلم تاريخي من قتال الكونغ فو من بين فنون قتال أخرى. ويتعرض أيضا، ولو بحدود، للغزو الياباني للصين. الخانة الأولى جذبت إليها اثنين من أهم وأشهر مخرجي الصين في الثمانينات وما بعد هما زانغ ييمو وتشن كايغي وحاليا وونغ كار واي. وفي الفترة الفاصلة هارك تسوي، جون وو من بين آخرين، ومعظم ما نضحت به هو أفلام أكشن لرجال ونساء يتقاتلون قفزا وطيرانا ويتلاحمون في مواجهات لا تنتهي بعضهم بالقبضات وحدها، والبعض الآخر بكل ما تصل إليه أيديهم من أسلحة.

الخانة الثانية ليست حكرا على هذا النوع من أفلام القتال لكن هذه الأفلام باتت تشترك في ترويجها أيضا. فموضوع احتلال اليابان للصين شكل أرضية عدد لا بأس به من أفلام الكونغ فو الحديثة.

في العام الماضي، على سبيل المثال فقط، عرض المهرجان الألماني ذاته فيلم زانغ ييمو الأخير «زهور الحرب» الذي يحسب له إنه كان أول فيلم صيني يستعين بممثل أميركي (كرستيان بايل) في دور بطولة. لكن لا يحسب له إجادة تفتقدها أفلام مخرج كانت له جولات فنية رابحة حين كانت أعماله، وأعمال الجيل الخامس من المخرجين الصينيين، تحت الحصار الرسمي وتضييق الرقابة على ما يمكن لهم تقديمه من أبعاد ومعالجته من شؤون.

ليس أن الحصار الرسمي خف، لكن ييمو وتشن كايغي والآخرين، هم الذين تراجعوا راضين تحقيق أفلام كونغ فو وأكشن خالية من مفاد يتجاوز حب الأبطال لمعارك السيوف وللطيران في الفضاءات والوقوف على أغصان الشجر العالية الرقيقة أو تجميد أنفسهم بين السماء والأرض (بفضل حبال غير مرئية بالطبع) ثم أعمال المزيد من الضرب والطعن.

«زهور الحرب»، وهو تقنيا ركيك وفنيا رديء، لم يكن الوحيد في العام الماضي الذي تناول هذا الاحتلال، بل كان هناك «سهل الغزال الأبيض» الذي حاذى الموضوع ولم يدخل في صلبه منتقلا من أحداثه الصينية البحتة إلى مطلع الغزو الياباني. وفي الربع الأخير من العام الماضي، أنجز الفيلم الصيني «العودة إلى 1942» أكبر نجاح في تاريخ العروض الصينية وهو يتناول الكوارث الطبيعية التي حلت بالصين قبيل ثم خلال الاحتلال الياباني.

مهما كانت الظروف والأسباب، إذا، يرأس وونغ كار وي لجنة التحكيم هذا العام (يقدم فيلمه هذا خارج المسابقة) وإلى جانبه في المهمة المخرجة الدنماركية سوزان باير، والمخرج الألماني أندرياس دريسن ومديرة التصوير الأميركية إلين كوراس، والمخرجة الإيرانية - الأميركية شيرين نزهت والممثل والمخرج الأميركي تيم روبنز والمخرجة اليونانية أثينا راتشل تزانغاري.

على هذه اللجنة أن تسمي فائزين من بين أربعة وعشرين فيلما متسابقا سابحة في مياه التفضيل والتحبيذ كما هي العادة في كل المهرجانات ودوراتها. لكن الاعتماد على لجنة من المخرجين والمهنيين الصارمين لا يكفي للتأكيد بأن الأفضل هو بالتأكيد من سيفوز، ذلك لأنه ثبت كثيرا أن حكم لجان التحكيم في النهاية قد لا يصب فيما يراه السينمائيون والنقاد خارجها. هذا، إذا ما حدث هذا العام، فسيكون صعب النقض كون معظم من هم في قائمة لجنة التحكيم (التي تصل دائما في المواعيد المحددة للعروض من دون تأخير) هم من المخرجين الذي تميز بعضهم على نحو أو آخر.

لكن هذا ليس الخط المشترك الوحيد بين معظم الأعضاء. هناك حقيقة أخرى من شأنها أن تجعل عمل لجنة التحكيم هذا العام مثيرا للاهتمام، ذلك أن معظم المذكورة أسماؤهم لديهم وجهات نظر سياسية مارسوها من خلال أفلامهم أو من خلال مواقفهم.

لجانب أن شيرين نزهت عرضت في مهرجان فينسيا سنة 2009 فيلمها الروائي الوحيد «نساء بلا رجال» كطلقة ضد الوضع الاجتماعي والسياسي الإيراني المتعسف، نجد المخرجة الدنماركية باير لا تقل اندفاعا في تحقيق أفلام تتعامل ومسائل سياسية عالقة، فهي تتعرض للحرب الأفغانية في «إخوة» وللعنف المتسلل للمجتمع الدنماركي في «في عالم أفضل» وللتفكك العائلي الناتج، ولو جانبيا، عن هجرة الدنماركيين لدول من «العالم الثالث» كما في «بعد العرس» و«في عالم أفضل» ذاته.

تيم روبنز ومواقفه ضد التدخل العسكري الأميركي في العراق معروفة والغالب أنه سينقل بعض وجهات نظره بقدر ما ستتيحه الأفلام من فرص لذلك. ويمكن القول: إن هناك فيلما واحدا على الأقل ينتظر روبنز مشاهدته بحماس هو «أرض موعودة» لغس فان سانت على أساس أنه ينتقد سعي المؤسسات الكبيرة لاستحواذ الأراضي معرضة إياها إلى تأثيرات بيئية.

لكن الفيلم الذي أستطيع التأكيد على أنه سيكون محط تجاذب بين أعضاء هذه اللجنة هي فيلم إيراني يحمل اسم جعفر باناهي مخرجا. وجعفر باناهي هو السينمائي الإيراني الذي حكم النظام عليه بمنعه من العمل لعشرين سنة. أودعه إقامة جبرية في بيته وأصر أن لا يحقق باناهي أي فيلم طوال تلك الفترة. رغم ذلك كسر باناهي ومن جحره (إذا ما صح القول) هذا القرار مرتين. الأولى قبل عامين حين أنجز، بطريقة غير مباشرة، فيلما يدويا (تسجيليا محدودا في عناصر إنتاجه) اسمه «ليس هذا فيلما» والثانية هي الآن منجزا فيلما عنوانه «باردي» حول رجل هارب من البوليس الذي يمثل النظام الذي يمثل الوضع والمرأة التي تلتقي به وتطرح عليه وعلى نفسها أسئلة تتناول الوضع الحالي.

ليس معروفا والفيلم مبرمج للعرض في نهاية المهرجان، كيف أنجز باناهي فيلمه هذا رغم القيود، لكن هناك اسم لمخرج آخر هو (الأنثى؟) كمبوزيا بارتوفيما يعني أنه عمد إلى الاستعانة بمن ينفذ العمل تقنيا.

ما هو ليس بغريب أن يحشد المهرجان أفلاما تتناول أزمات العصر فهذا كان شأنه حتى حين كانت برلين قمة هذه النزاعات أيام انقسامها إلى نصفين شرقي وغربي. آنذاك تم النظر إلى المهرجان على أساس أنه ملتقى نموذجي لما يتفاعل وراء وأمام الستار الحديدي في أوروبا. بعد انهيار النظام الشيوعي توقع كثيرون أن يضيع المهرجان بوصلة التعامل مع الأوضاع السياسية خصوصا إذا ما فقدت هوياتها الآيديولوجية، لكن المهرجان برهن على أنه لا يزال الاختيار الأول لمشاهدة ما تنجح السينما في عكسه دائما: العالم.

إذن، ها هو جرس البداية يقرع والجياد تنطلق بغية الوصول إلى خط النهاية بعد أحد عشر يوما من الآن. والفوز ليس للأسرع في هذه الحالة بل للأجمل (ربما).