يوميات مهرجان برلين السينمائي (2 ): السينما العربية رهينة للسياسة

من فيلم «حرمة» للمخرجة السعودية عهد
TT

على المرء، هذه الأيام أن ينتظر فيلما سعوديا أو مغربيا أو إماراتيا لم تنتجه الأوضاع السياسية الحالكة التي تعيشها حفنة من الدول العربية. عمل يختلف في أساسه، أي شكلا ومضمونا، عن باقي الأفلام التي تعرضها شاشات المهرجانات الدولية، حتى صارت السينما العربية مرتبطة بتلك الاضطرابات والقضايا غير المحلولة التي يعيش العرب وإياها منذ سنتين وأكثر.

ما الذي حدث لنا حتى تحوّلت أفلامنا إلى مجرد تظاهرات رغبة في تعريف الجمهور الغربي بإنتاجات الوضع العام، بدلا من تقديم أعمال فنيّة لها هواجس في شؤون حياتية أخرى، أو إبداعات فنيّة خارجة عن المتوقع والسائد؟

هل فات الأوان لولادة جيل يؤمن بأن السينما هي جمال اللغة التي تستخدمها قبل أن تكون منبرا خطابيا أو تعليقيا على أحداث يتناقلها الإعلام أولا بأول على أي حال؟

السينما العربية الموجودة في برلين تعد هذه السنة بأن تكون من طينة السنة السابقة وتلك التي قبلها عندما انحسرت القضايا فيما يحدث وليس في عمق التجارب الإنسانية ذاتها، وفي أشكال هي صدى لبعضها البعض وانعكاس لنوعيات متماثلة من الأساليب والتيارات. هذا في المجمل، أما حين النظر إليها منفردة، وتبعا لما سنراه منها، فإن الاختلاف وارد وربما يرد من حيث لا يتوقّع المرء مطلقا.

طبعا ليست هذه الأفلام المتحدّثة لغة الوقائع الآنية هي حكر مهرجان برلين، بل تتسابق عليها مختلف مهرجانات العالم (من «كان» إلى «تورونتو» ومن «نيويورك» إلى «روما» مرورا ببعض المهرجانات العربية صغيرة وكبيرة) بينما تغيب الأفلام التي تقصد النأي بنفسها بعيدا عن السائد وعميقا في طروحات متميّزة.

في تظاهرة البانوراما هذا العام، وهي التظاهرة الثانية من حيث أهميّتها بعد المسابقة، نجد فيلمين عربيين تسجيليين. واحد آت من لبنان بعنوان «عالم ليس لنا» لمهدي فليفل، الذي خرج بأكثر من جائزة في مهرجان أبوظبي الأخير، والثاني «فن/ عنف» وهو إخراج ثلاثة هم فلسطينيتان (مريم أبو خالد وبتول طالب) وإسرائيلي (أودي ألوني).

كلاهما جزء من مجموعة متزايدة من الأفلام تتناول الوضع المتعلق إما بفلسطين أو بفلسطينيين وبينها، للتذكير، فيلمان مرشّحان لأوسكار أفضل فيلم تسجيلي هما «خمس كاميرات محطّمة» و«حارسو البوّابة». بالنسبة لـ«العالم ليس لنا» يتابع المخرج مهدي فليفل، وهو مهاجر من مخيم عين الحلوة في لبنان إلى الدنمارك، سنوات ثلاثة أجيال من الفلسطينيين ويخلص إلى تجسيد جيّد لحياة صارت طبيعية غصبا عنها. الفيلم الآخر يحمل هويّة أميركية ويدور حول اغتيال جوليانو مير خميس، الذي أنشأ مسرحا ضم إليه مواهب فلسطينية ونشط في قضايا السلام خصوصا بعد مجزرة جنين.

وهناك فيلم آخر يتعامل والمخيّمات الفلسطينية هو إنتاج إماراتي/ إيطالي مشترك لمخرج اسمه ماريو ريتزي. الفيلم بعنوان «الانتظار» ويتناول مشكلة مخيم الزعتري في سوريا (على الطريق المؤدي إلى الأردن) في ظل الأحداث الدامية في سوريا الآن. في الأصل هو رقعة من الأرض يعيش فوقها 45 ألف لاجئ فلسطيني، لكنه الآن بات مزدحما بخمسة عشر ألف لاجئ إضافي جلهم هارب من القتال بين الجيش النظامي والمعارضة.

الموضوع الفلسطيني معبّر عنه أيضا في «لما شفتك» لآن ماري جاسر لكن عبر العودة إلى السبعينات حينما وجد جيل جديد من الفلسطينيين نفسه نازحا إلى الأردن. هذا الفيلم، الذي تناولناه تفصيليا حين مشاهدته في مهرجان أبوظبي، يحمل فكرة جيدة معبّرا عنها بلغة غير معني بتفاصيلها الفنية.

من خارج هذا النطاق بأسره، فيلم لمخرجة من السعودية تكتفي باسمها الأول «عهد» وتعرض، في مسابقة الفيلم القصير فيلما بعنوان «حرمة» يذهب إلى حيث ذهبت المخرجة المعروفة هيفاء المنصور في فيلمها الطويل «وجدة» إنما ربما بموضوع أكثر قساوة وبعيدا عن رغبة مخرجته تحميل فيلمها أي تنازلات. إنه حكاية امرأة دخل عليها شقيق زوجها إثر وفاة زوجها مطالبا بمال يقول إن شقيقه استدانه منها، وكيف أن هذه المرأة لم تواجه فقط هذا الوضع الشائك بل أيضا حكما يجعلها مسؤولة عن واقعة دخول رجل غريب عليها.

المسابقة نفسها تخلو من أي نشاط عربي، كيف لها ذلك وليس لدى السينما العربية ما تصعد به إلى شؤون لم تتناقلها وسائط الإعلام الغربي وإلى مدارات تبرهن من خلالها على أن الحياة ما زالت تحبل بمسائل أخرى غير وقائع كل يوم، وإنه ليس من الخيانة في شيء لو تطرّق إليها السينمائي مبدعا.

أفلام برلين ـ سير ذاتية

* Lovelace الولايات المتحدة ـ بانوراما

* ليندا لفلايس لم تكن ممثلة سعيدة. عاملتها أمّها بوحشية جعلتها تهرب من البيت وتقبل بالزواج برجل لا تعرفه وهو سرعان ما زج بها زوجها في الأفلام الخلاعية ولاحقا حوّلها إلى عاهرة وعاملها دوما كتجارة. لكنها مثّلت في فيلم اسمه «زلعوم عميق» Deep Throat الذي كان من أوائل أفلام البورنو التي احتوت على حبكة قصصية. الفيلم تكلّف نحو 50 ألف دولار لكنه جمع أكثر من 200 مليون دولار. ليندا (واسمها الحقيقي ليندا بورمان وتقوم بتمثيلها أماندا سايفرايد) تقاضت فقط 1250 دولارا عن دورها سطا عليها زوجها كما سطا على كل ما كانت تحصله من عملها.

يقدم المخرجان جفري فرايدمان وروب إبستين الموضوع على نحو لا يخفي محاولة استغلال الاسم لنجاح تجاري. والفيلم بالفعل أنجز وعده في مهرجان «سندانس» حيث شوهد أساسا. صحيح أن المرء لا يزال يشعر بالغبن الذي تميّزت به حياة الممثلة، لكن العمل اختير له ألا يحمل أكثر من ذلك التعريض للحكاية. لا يهمّ الجوانب الإنسانية بحد ذاتها إلا من زاوية استثمارها. وهذا يتّضح عبر الانتقالات غير المتوازنة بين فترات حياة الممثلة.

في حين أن سايفرايد لا ينقصها الإقدام على تمثيل دور صعب، تقوم شارون ستون بدور والدتها لكن كثيرين قد لا يدركون أنها الممثلة ذاتها التي كانت نجمة الثمانينات وجزء من التسعينات.

3. Grandmaste: المحارب يب مان في «السيد الكبير» 4 lovelace.jpg من «لفلايس» رئيس لجنة التحكيم وونغ كار واي على المنصّة ليل أول من أمس محييا الجمهور والإعلام. فيلمه «السيد الكبير» عُرض في افتتاح المهرجان خارج المسابقة.

5 Kar Wai.jpeg.

* The Grandmaster فيلم الافتتاح ـ خارج المسابقة

* في نهاية فيلم وونغ - كار وي، يعود يب مان (أو إب كما يسمّونه بالإنجليزية) إلى هونغ كونغ تتبعه شلة من أساتذة فنون القتال الشرقية. وفي ذلك تحيّة للمدينة الصينية التي يرى المخرج، وهو ترعرع هناك كما بطله، أنها المركز الثقافي على أكثر من نحو. المكان الذي حافظ على حبّه لفنون القتال والتي - باستخلاص حياة يب مان ذاتها، لعبت دورا كبيرا في صياغة فن القتال من دون سلاح.

على أن «السادة الكبار» له غاية أخرى وهي تقديم ذلك المقاتل الذي وقع في حب المرأة التي تحدّته. المخرج الذي عالج قصص حب تميل إلى وجدانيات العاطفة الممتزجة بالذكريات والوحدة، عرف كيف يذيب ذلك في فيلم ظاهره هو الكونغ فو وباطنه هو ذلك الإعجاب المتبادل، ثم القتال المتكافئ، بين مقاتلين انتقلا من المباريات القوّة إلى وحدة العمل الوطني ضد المحتل الياباني.

إنه عن المقاتل (يقوم بدوره توني ليانغ) والفيلم يفتتح به كنوع من الاستعراض المسبق لما سنراه. لقطة لتجمّع محاربين في مدينة فوسهان (جنوبي الصين) ثم قطع على يب مان يتحدّث عن حياته ما يعرّفنا اختيار المخرج لمنهج السيرة الذاتية وسيلة للسرد. بعد ذلك قطع على معركة بين يب مان وتلك الجمهرة الكبيرة من المقاتلين التي تخفق، فرادى وجماعات، في النيل من يب مان ولو بجرح واحد.

يدرك المشاهد هنا أن الفيلم ومخرجه يطلبان منه أن يصدّق ذلك ليس من زاوية أن البطل «سوبرهيرو» لا يُصاب ولا يُقهر، بل من زاوية أنها حقيقية. لكن مع مضي الأحداث وانتقالها إلى سيد قتال مسن اسمه غونغ (وانغ كينجيانغ) يريد توريث علمه لأبرز اللاعبين ودخول يب مان لتحدي اختياراته، يشعر المرء بأن المزج بين المعاني الإنسانية كالحب والوحدة والشعور بالذنب وبين الرغبة في تقديم فيلم كونغ فو يميل إلى الجانب الثاني. فقط لاحقا، في نصف الفيلم الثاني، عندما يقع بطلا الفيلم في حب صامت، ثم يفترقان ونتعرّف على زوجته (التي من الواضح أنه لا يحب) يبدأ الفيلم إبراز العوامل الإنسانية المذكورة كشأن ما أنجزه المخرج من قبل (خصوصا في «مزاج الحب» سنة 2000).

يب دارس فنون قتال شمالية يواجه دارسي علوم قتال جنوبية. نحن لا نفهم كثيرا في كيف يختلف الكونغ فو في الشمال عنه في الجنوب، لكن المخرج، بعد أن أمضى على هذا المشروع نحو عشر سنوات، بات يعرف حبّا في تقديم فيلم غير تقليدي عن موضوع وبطولات امتلأت بها السينما الصينية (والهونغ كونغية بالتحديد) ومنها أفلام بروس لي (القليلة نسبيا) وهو الممثل الراحل الذي تعلم على يدي يب مان في أواخر الستينات. بعد قليل تستطيع أن تلحظ أهمية حركات اليدين وكيفية تحريك الأصابع والقبضات قبل الالتحام. الكف المفتوحة تعني أني سأهاجم لكن من موقع الدفاع عن النفس (اختصاص يب مان) والقبضة المغلقة (كما يواجهه بها بعض خصومه) هي إعلان هجوم بلا حدود.

الكاميرا ترتفع مع يد يب أكثر من مرّة مكررة المفهوم والتأثير، وفي حالات لا يختلف القتال هنا عن القتال في فيلم أقل شأنا، نظرا لاستخدام وسائل الجذب وعناصر الإنتاج ذاتها. لكن في النهاية يمتلك الفيلم ناصية الاختلاف ويتبلور كعمل لا بد منه يلخّص في ساعتين الكثير مما يريد قوله علما بأن نسخة الفيلم الأصلية بلغت أربع ساعات.