الروسي ضد السلطة والألماني «وسترن» وجداني

مشهد ذهب للمخرج الألماني التركي توماس أرسلان
TT

لقطة أولى: في الدفاع عن مهرجانات عربية

* من الطبيعي أننا، معشر النقاد، ننتقد. هذا هو عملنا غير المشكور الذي نقوم به، فإذا بنا نحصد لقاء ما نقوم به ردود فعل بعضها مقبول (في شكل عتاب أو حتى اعتراض) وبعضها غاضب (يأخذ شكل صد وهجوم).

وهناك في الحقيقة مصدران للنقد، نحسب أن أحدهما فقط هو الفاعل والمطلوب الذي يجب أن يبقى؛ هذا هو النقد الصادر من قلب لا يحمل ضغينة وعقل لا يعمل حسب مصالح فردية خاصة. أما الثاني، وهو العكس تماما قلبا وعقلا، فهذا يبقى مكشوفا ومضحكا في مسبباته: ذات مرة كان نقد أحد النقاد ضد مهرجانٍ وليد أنه لم يتلـق المبلغ الموعود له أول وصوله كما أراد، وآخر وجد نفسه أمام خطأ في المطار إذ لم يتم استقباله، وهناك من تفوته حفلة ليلية فيسجل ذلك في خانة السلبيات.

لكن الحقيقة هي أن المهرجانات العربية المقامة شرقا وغربا، في غالبيتها، تقوم بجهود مضنية لأجل ضمان نجاح مهامها كنوافذ ثقافية وفنية وفكرية على العالم. أحيانا كثيرة تخطئ في اختيار إداريين وأحيانا تصيب. في مرات تتكبل بقيود ميزانيات صغيرة، وفي أخرى تحسن استغلال ما لديها. تنجح في جذب اكتشافات سينمائية وتخفق. لكن الجهد المبذول يسجل على الدوام.

دوافع هذا الحديث كثيرة ومعظمها متواكب عبر سنوات من الملاحظة والتقدير، لكن المناسبة تطفو مجددا حين حضور مهرجان كبير مثل برلين والاطلاع على الجهد الكبير المبذول عاما وراء عام لإنجاح كل دورة. التفاصيل الكثيرة والانصراف الكلي والعمل بجهد لا يكل والبحث، في النهاية، عما يرضي الجميع: السينمائيين والإعلاميين والجمهور.

كلمة السر ليست في المثابرة والاستمرار، بل في الصعود والرقي. هذا الأخير صعب جدا، لكن بعض مهرجاناتنا تقوم به.

* قليلة جدا المرات التي تشذ فيها الدقة المعروفة عند الألمان، فيتأخر عرض فيلم معين لكن هذا ما حدث مرتين متتاليتين، أول من أمس. المرة الأولى في الساعة التاسعة صباحا عندما حان موعد عرض الفيلم الروسي «حياة سعيدة وطويلة» فإذا بنا نجلس منتظرين «تشريف» لجنة التحكيم التي تأخر عدد من أعضائها في النوم. ربع ساعة قد لا تكون طويلة في حياة الغالبية، لكنه دهر لمن يتذكر كيف كان كل شيء محكوما بدقة. وما لبث التأخير أن تكرر (هذه المرة لـ7 دقائق) في الفيلم الثاني في المسابقة (الحادية عشر و45 دقيقة) لكن صدمته لم تكن كالأولى.

والجمهور الألماني لا يشكو أو ينفعل. لا تسمع صفيرا في الصالة أو زمجرة أو احتجاجا، ولو تم لكانت الإدارة سجلت على نفسها الملاحظة تجنبا للتكرار. أهذا هو الشعب ذاته الذي جعل ألمانيا أكثر دول أوروبا ازدهارا؟ بالتأكيد.

الفيلم الروسي كان أحد أفضل ما خرج من تلك البلاد في السنوات الـ5 الأخيرة، وهو يبدأ بلقطة باتت متكررة. لقد اكتشفت السينما الماء. هناك أنهر في أكثر من فيلم معروض هذا العام؛ المياه تجري بإذن خالقها، والكاميرا في مطلع «حياة سعيدة وطويلة» تتابعها في لقطة طويلة (ولو غير سعيدة) لتعريفنا بموقع تلك القرية القريب من النهر، الذي يمكن سماع هديره في غرفها. بطل الفيلم ساشا (ألكسندر يتسنكو) يعيش في واحدة منها. إنه المسؤول عما تبقى من مزرعة تعاونية والحكومة تريد إغلاقها واستثمار الأرض لبيعها. وهو يوافق لكنه عندما يواجه ساشا المزارعين يجدهم معارضين للفكرة ومستعدين للذهاب إلى الحرب ضد السلطة (ممثلة هنا بمكتب قديم وحفنة موظفين) على التخلـي عن منازلهم والأرض التي عملوا فيها لعقود. يولّون ساشا المسؤولية، وهذا ما يبلور لديه الرغبة في الدفاع عن مصلحة هؤلاء، مما يعرضه لغضب المسؤولين. في الوقت ذاته، ينفك هذا الإجماع حوله.. أحد المساعدين يطلب مالا لقاء خدماته، وحين لا يحصل عليه يرحل. آخر تؤثر عليه زوجته حين تقول له: «علينا أن نهتم بمصلحتنا. ساشا يهودي يعمل لأجل المال وهم منظمون لهذه الغاية دائما». يقتنع الزوج بها، وهو كان أكثر المتحمسين للحفاظ على هذه المستوطنة.

في نهاية الأمر يجد ساشا ظهره للحائط. ليس عنده الكثير من الحلول. يبدأ ببناء معقل يرد عنه رجال السلطة إذا ما جاءوا لإبعاده، لكن حتى من قبل اكتمال المشروع يأتي رئيس المكتب وأحد موظفيه ورجل شرطة بغاية التفاهم مع ساشا، لكن ساشا، الذي بات الوحيد الباقي في القرية، يقتلهم واحدا إثر الآخر.

النهاية هي أيضا على ذلك النهر في منطقة كولا (شمالي روسيا) والمخرج بوريس خلبنيكوف يجعل هدير النهر كما لو كان هدير الحياة حتى في تلك المنطقة الهادئة. عمله على الكاميرا جيد، والإدارة العامة للأحداث. تفوته بعض التفاصيل وأهدافه السياسية ليست واضحة تماما (هل هو مع عودة النظام الشيوعي؟ هل هو ناقد لمخلفاته؟) لكن سرده الحكاية وتفعيله للدراما جيد ولو من دون أسلوب فني مبتكر.

هناك نهر في مطلع الفيلم التالي «ذهب»، ولاحقا أنهر مختلفة في أكثر من موطن في فيلم ألماني من نوع الـ«وسترن»، مما يجعل هذه السنة حافلة بفيلمين من هذا النوع الأول «دجنغو طليقا» لكوينتين تارانتينو، والثاني هذا الفيلم الذي أخرجه توماس أرسلان: سينمائي تركي الولادة (غير اسمه الأول إلى توماس منذ أن انتقل إلى العمل في برلين) له بضع تجارب روائية وتسجيلية.

«ذهب» لا ينتمي إلى نفس النوع الأميركي المعتاد من الوسترن وليس من الوسترن السباغتي الذي انطلق إيطاليا في الستينات، لكن سينمائيين ألمانا وإسبانا أنجزوا أفلاما من هذا الفصيل الخارج عن التقليد. إنه (بالأحرى) نوع ثالث يتميز بوجدانياته. إنه عن 5 رجال وامرأتين من المهاجرين الألمان، قبل عامين من القرن العشرين، ينطلقون على ظهور جيادهم في رحلة طويلة في ولاية بريتيش كولومبيا الكندية متوجهين في رحلة طويلة صوب شمال الولاية حيث يحلمون باكتشاف الذهب وتحويل حياتهم المدقعة إلى أخرى رغيدة. الرحلة تمتد لأسابيع من عمر الفيلم، ولساعتين من العرض، وتشمل صعابا ومواقف عدة تؤدي إلى فقدان بعض هؤلاء الرجال قتلا كما إلى العودة عن المهمة بالنسبة لرجل وزوجته بعدما اكتشفا أنهما، وبعد مرور نحو شهرين على الرحلة، في قافلة غير متأكدة من اتجاهها. وهناك حالة ذلك الألماني الذي يفقد عقله فيخلع ملابسه بكاملها ويركض في البرية منفردا ولا يظهر ثانية. في النهاية هما رجل وامرأة فقط حين الوصول إلى بلدة اسمها «تلغراف سبرينغ» للراحة. لكن هناك قاتلين في أعقاب هذا الرجل، وهما ينالان منه. في النهاية المرأة وحدها وبتصميم ألماني فريد.. ها هي تمضي وحيدة.

للفيلم خصائصه؛ الفكرة بحد ذاتها جيدة، لكن التنفيذ أقل من ذلك. لا أدري أين تم تصوير هذا الفيلم لكن هذه المناظر ليست في بريتيش كاليفورنيا المعروفة بغاباتها الكثيفة وثلوجها، بينما نجدها في الفيلم وقد تحولت إلى أرض صحراوية وجبال صخرية مقفرة أكثر من مرة. لكن إذا ما وضعنا هذه الحقيقة على الرف قليلا، وكذلك بعض التفاصيل الأخرى (معاملة الهنود من مواطني المنطقة بازدراء) يبقى الفيلم واضحا في عدم إلمامه بمكونات الزمان والمكان.

لا يلعب الدين أي دور في هذين الفيلمين (رغم أن ساشا يهودي والرجل الذي يفقد عقله في الفيلم الثاني يحمل اسما يهوديا) على عكس ما يرد في فيلم «باسم الـ...» (والنقاط من أصل العنوان). فيلم بولندي من المخرجة مالغوشكا زوموفسكا حول راهب كاثوليكي في بلدة صغيرة يكبت رغباته الجنسية المثلية كبتا شديدا إلى أن تتهاوى ممانعاته وهو يرى أن الشذوذ انتشر بين بعض الشباب العاملين على مشروع مركز ديني. هو أساسا منجذب إلى شاب من هؤلاء ويصد محاولات فتاة التقرب منه. حينما ينتشر بين مسؤوليه أنه يتصرف على نحو غير مقبول (ولو أنه لم يكن بعد أقدم على أفعال) تعفيه من المسؤولية في ذلك المكان، ونراه ينطلق وحيدا فوق الطريق مغادرا لمكان بعيد. نهاية كان يمكن للفيلم التوقف عندها، لكن المخرجة تريد استغلال الحكاية لأبعد مدى، لذلك تصور لحاق ذلك الشاب به ونهايتهما معا.

الواقع أن الدين متوفر كذلك في بضعة أفلام هذه السنة. نتذكر في العام ما قبل الماضي كيف تناولت بضعة أفلام متسابقة على الدب الذهبي الدين الإسلامي في أكثر من نحو (لم يكن بينها ما هو معاد، لكنها جميعا متسائلة). البوسنية ياسميلا زبانيتش قدمت «على الطريق» حول ما يحدث لزوج يتأثر بمخيم للإسلاميين، ويتحول إلى رجل محافظ. والإيراني - الألماني برهان قرباني قدم «شهادة» حول محقق شرطة مسلم، وكيف يمارس واجباته (وفي الوقت ذاته) حول فتاة مسلمة موزعة بين التعاليم الحنيفة والحياة الغربية.

هذا العام نجد أن المسيحية هي ما تدور علامات الاستفهام حوله.

لجانب «باسم الـ...»، نجد في المسابقة أيضا فيلما فرنسيا بعنوان «الراهبة»: حكاية راهبة شابة يكتشف الدير أنها كانت متعددة العلاقات، فيفرض عليها الحجز المبرم في غرفة صغيرة. ونجد أكثر من لمسات دينية في الفيلم الكندي «فيك وفلو شاهدا دبا» لدنيس كوتيه.