حضور ساطع للمرأة في «برلين» هذا العام

«الراهبة»، للمخرج غيليام نيكولوس
TT

ثلاثة أفلام من يوم أمس، تبرز، لا دور المرأة أمام الكاميرا فقط، بل - وبالنسبة لأحدها، دورها وراء الكاميرا أيضا. بإضافة فيلمين آخرين من إخراج نساء، شوهد أحدهما قبل يومين والآخر سيعرض بعد يومين، وبضعة أفلام تدور أساسا حول المرأة، فإن المسابقة التي تبقى أهم ما يجمع أهل السينما والإعلام حول هذا المهرجان، تسجـل حضورا ملحوظا.

الأفلام الثلاثة المـشار إليها، بدأت صباحا بفيلم «غلوريا»، إنتاج تشيلي - إسباني من إخراج سيباستيان ليلو، وكثيرون هنا يرون أن ممثلته الرئيسية بولينا غارسيا، إما تصلح لجائزة أفضل تمثيل نسائي أو أنها ستنال هذا الشرف بلا ريب. «غلوريا»، ليس إعادة صنع لفيلم جون كازافيتيز الرائع سنة 1980 عن المرأة (جينا رولاندز) التي تقرر الدفاع عن صبي ضد المافيا وهي تكره الأولاد ومشاكلهم، بل هو دراما، فيها ما يكفي من الحسنات لتعويمها بين تلك الأقرب لجائزة الدب الذهبي نفسها. هذه المرأة تعمل في وظيفة ثابتة، وتعيش وحيدة، ولديها أولاد متزوجون، يعيشون مشاكلهم الخاصة بدورهم. غلوريا، التي تعاني ضعف نظر، تقترب من الستين، لكنها ما زالت جذابة وفي داخلها وحدة أنثى تبحث عن شريك حياة. تؤم المراقص والنوادي وتختلط اجتماعيا لكي تنسى وضعها القانط، ولا بأس إذا ما خرجت بصداقة ما. في إحدى المرات، يقترب منها رجل يناسبها سنـا، اسمه رودولفو (سيرجيو هرنانديز)، فيتعارفان، ويرتبطان بعلاقة عاطفية، تبدأ واعدة، لكنها سريعا ما تهتز تحت رغبات غير منسجمة بينهما، فهي تريده لها وهو لديه أسرة من زوجة سابقة ويبدو غير قادر على الانفصال عن مشاكله. رحلة الفيلم في ساعتيه، هي رحلة المرأة ذاتها، وكلتا الرحلتين لا تحقق المرجو منها تماما. بعد أحداث يتخلله انفصال العلاقة بين غلوريا ورودولفو، تعود إليه، وتقبل دعوته لعطلة في فندق ساحلي. لكن الأمور تضطرب بينهما عندما تعلن عن رفضها لعلاقاته الأسرية بإسقاط هاتفه في كأس شرابه. يتركها فجأة ويمضي. ما يحدث بعد ذلك مهم دراميا ووجدانيا للفيلم ولبطلته، لكن المفاجأة هي أن الحدث لا يضعها على طريق جديد أو اكتشاف نفسي.

هناك مشهد لها وهي تقف تحت رذاذ الماء في الحمام، في غسل للماضي تتوقْـع منه أن تخرج وقد اكتشفت قيمتها الحقيقية، فالماء غاسل الذنوب وإعلان فصل جديد لحياة في مثل هذه المناسبات، لكن غلوريا تخرج وهي ما زالت تقاوم أي تغيير حقيقي، مع العلم أن هذا التغيير صعب أساسا بالنسبة لامرأة وحيدة في مثل هذا العمر.

هناك إشارات اجتماعية (مظاهرة شبابية في خلفية أحد المشاهد)، لكن القول بأن الفيلم يشير إلى «ضياع طبقي تعبر عنه غلوريا» ليس استنتاجا كاملا مهيأ للتصدير. ربما نجد في إنقاذ خادمة غلوريا لها من ورطة ماديـة بعض التوطين لفكرة أن الطبقة الأدنى هي من تهب لمساعدة خالصة، لكن المشهد لا يكفي لتأكيد هذه النيـة، بل يسمح فقط بالإشارة إليها، مما يعني أنها قد تكون مقصودة أو غير مقصودة.

بالنسبة للممثلة بولينا غارسيا، يجدها هذا الناقد تحمل على وجهها تعبيرا جامدا من مطلع الفيلم لنهايته. أي تفاعل مع ما يحدث لها متروك للتصرفات، لكن السطح لا يبرز انفعالات تمنح الممثلة ملكية كاملة على شخصيتها.

الوضع أفضل في نواح متعددة بالنسبة لفيلم «ليلى فورتي» للمخرجة بيا ميريس. الفيلم ومخرجته وموضوعه وأحداثه، جنوب أفريقي، كذلك بطلته الممثلة السمراء راينا كامبل. يصلنا «ليلى فورتي» أكثر تكاملا، من وجهة نظر فنية بحتة، من الكثير من الأفلام الأفريقية التي شوهدت سابقا. إنه واحد من أكثرها اختلافا أيضا، خصوصا إذا ما قورن بأفلام جنوب أفريقية أخرى حامت دوما حول الوضع العنصري السابق أو الوضع المتعلـق به حاليا.

«ليلى فورتي»، هي أم وحيدة لصبي صغير، تقبل وظيفة في كازينو، تترك وابنها مدينة جوهانسبورغ من أجله. الطريق طويلة إلى بلدة غير مسمـاة، والليل يحط حاملا معه رعبه. من البداية، تقودنا المخرجة لكي نتوجس مع بطلتها الخوف من الوضع السائد: المنازل المحصـنة، الكاميرات المنصوبة، وجريمة قتل نرى ضحيـتها رجلا أفريقيا وراء المقود. لاحقا، على الطريق الوحيد والمظلم، يداهمنا والبطلة شعور آخر بالخطر. سيـارة تتوقـف قريبا من المكان الريفي المعزول الذي اضطرت البطلة التوقـف فيه. السيارة ذاتها أو أخرى تشبهها، تقف بمحاذاتها في محطـة وقود. وإذ تنطلق ليلى متوتـرة، تتوقع أن يقع لها حادث، وهذا ما يقع بالفعل. الضحية رجل كان يقف أمام سيـارته في تلك الساعة المتأخرة من الليل في طريق مهجور، وما تلبث ليلى أن تصدمه بقوة.

ستخفي ليلى الموضوع بعدما فشلت في إنقاذ الرجل الذي مات في سيارتها، وستلقي الجثـة في مزبلة. لكن البلدة لا بد أنها صغيرة جدا، لدرجة أن الأحياء يرتطمون بعضهم ببعض بسرعة، فأول من تجري له مقابلة لأجل شغر مركز في الكازينو الذي تسلمت العمل فيه هو رجل أبيض، وهذا الرجل هو ابن ذاك الذي صدمته بالسيارة.

تلك المصادفة صعبة الهضم، لكن المخرجة تلتف حولها بضع مرات حتى تنجح في تهميشها. أداء الممثلة راينا كامبل في دور ليلى، واحد من تلك العناصر التي تساعد في تجاوز عثرات الفيلم الروائية أو الدرامية. تتميـز بحضور جيـد، وعلى عكس الممثلة التشيلية السابقة، تحمل انفعالاتها على نحو واضح من دون استزادة أو افتعال.

الجريمة والعقاب في حين أن «غلوريا» دراما اجتماعية وعاطفية صرفة، يقترب «ليلى فورتي» من حدود الفيلم البوليسي حتى النهاية. لكن «الراهبة»، وهو ثالث فيلم حمل موضوعا نسائيا بين عروض المسابقة في يوم واحد، يعود إلى الدراما وينتقل بها - وبنا - إلى عام 1765. سوزان (كما تذكر في مذكرات تكتبها سرا وتخفيها تحت أرض الحجرة التي تعيش فيها)، أجبرت على دخول الدير رغما عنها. ليست لأنها غير مؤمنة أو أنها لا تجد في نفسها حاجة للعبادة والصلاة، بل لأنها كانت تريد أن تختط طريقا مختلفا ولم تنو أن تصبح راهبة. يصبح الوضع صعبا بعدما ترفض إدارة الدير السماح لها بالمغادرة، ويزيد الأمر سوءا اكتشاف أنها ابنة علاقة غير مشروعة بين أمـها وعشيق سابق. هنا، تبدأ مأساتها الحقيقية، إذ تتلقــى عقابا على ذنب لم تجنه يوما ولم تكن إلا ثمرة له.

طريق هذا الفيلم مطروق من قبل، لكن المخرج غيليام نيكولوس، الآتي من خلفية تلفزيونية، ينجز عملا كلاسيكي الشكل، جيـد التصوير وتأطير الصورة، كما يتميـز بإيقاع تشويقي يناسب المعالجة الكلاسيكية التي يختارها المخرج. بذلك، هو واحد من الأفلام القليلة التي تذكـرنا بمخرجين فرنسيين لامعين سابقين، عمدوا من خلال البناء ذاته إلى تقديم دراميات تاريخية قويـة بينهم، على سبيل المثال فقط، برتران ترافنييه، مع اختلاف أن الثاني لديه خبرة تمنح أعماله تميـزات فنيـة، لا نجدها في هذا الفيلم رغم جودة صنعته. كذلك، وفي الحقيقة، لا نجدها في الكثير مما هو معروض. ما ينتمي إليه «الراهبة» هو سينما تطرح موضوعا آخر حول الكنيسة وشغفها بالخطيئة والعقاب، وهو لا يبتعد كثيرا عن الفيلم الذي عرضه «كان» في الربيع الماضي تحت عنوان «وراء الهضاب» للروماني كرستيان مونجيو، حول تلك الفتاة المتحررة التي تأتي لزيارة صديقتها الراهبة، فتعاقب على أفكارها بسجنها ومحاولة «استخراج الشيطان» منها حتى تموت.

هو أيضا فيلم نسائي، مع تمثيل جيد من الجميع بمن فيهم بطلته بولين إتيان، علما بأننا شاهدنا للمخرج النمساوي أولريخ سيدل فيلما فاشلا آخر من توقعيه هو «الفردوس: أمل» (الجزء الثالث من ثلاثية عرض: الأولى في «كان»، والثانية في «فينيسيا»، والثالثة هنا)، يدور حول مجموعة فتيات في مدرسة داخلية لتخسيس الوزن، تتقدمهن فتاة تقع في حب طبيب المدرسة.

إلى حد ما، يبدو غريبا أن مخرجة تتولـى الحديث في موضوع رجالي، لكن هذا ما أقدمت عليه مالغوشكا سموفسكا في «باسم الـ…» الذي، كما قدمنا، يدور حول راهب يعاني كبته العاطفي الشاذ.

يبقى من بين ما سنطالعه من أفلام نسائية (إذا صح هذا التعبير)، الفيلمان الفرنسيان «كاميل أوديل 1915» لبرونو دمونت، و«على الطريق» للمخرجة إيمانويل بركو. وهما فيلمان فرنسيان: الأول من بطولة جولييت بينوش، والثاني من بطولة كاثرين دينوف.