«دور الجامع» أعرق أحياء الرباط.. يفقد بريقه ويهجره طلابه

أشهر معالمه «سينما الشعب» و«مقهى موريتانيا» و«مواعيد الشباب»

حي دور الجامع في الرباط المكان المفضل لطلاب الجامعة («الشرق الأوسط»)
TT

لا يزال باعة الخضر والفواكه وبعض القصابين في حوانيتهم الصغيرة، الخضراوات الطازجة تفتح الشهية، حتى حزم البصل الأخضر ندية، رائحتها نفاذة قوية، ثمة معالم أساسية هنا لم يدفنها الزمان، حتى حين تحول الزمان لم يأسَ على تحوله، بقي حي «دور الجامع» صامدا، هذا الحي هو قلب الرباط، سكنه «الرباطيون» منذ عقود طويلة.

كان قبلة الطلاب الجامعيين، يتسكعون في شوارعه وبين متاجره وحوانيته ومقاهيه، إذ في «دور الجامع» توجد أعرق الداخليات الجامعية، الذي ظل محتفظا باسمه القديم «الحي الجامعي مولاي إسماعيل».

ذات يوم، ذات سنة، ذات زمان، كنت أنت أيضا أيها الفتى هنا، كان الزمان وقتها جميلا، وتقاسمت حلاوته مع رفاق الدراسة.

في الشارع الرئيسي، يوجد مقهى «فيدو»، إلى هذا المقهى الأنيق تأتي طالبات وطلاب لمراجعة دروسهم، لعله المكان الوحيد الذي أصبح يجتذب الطلاب الذين هجروا حي «دور الجامع»، داخل المقهى توجد شاشات بلازما لنقل برامج فضائيات، وعلى جدرانه علقت صور بالأبيض والأسود، لبعض معالم الرباط القديمة، كلها التقطت في عشرينات القرن الماضي.

كانت هناك طالبتان تجلسان حول طاولة، تحتسيان قهوة ممزوجة بالحليب وتراجعان دروسهما، واحدة ارتدت زيا تقليديا ووضعت غطاء مزركشا على رأسها، والأخرى كان شعرها يتناثر ذات الشمال وذات اليمين، وترتدي بنطالا من الجينز، تتحدثان بصوت خفيض. في زاوية أخرى جلس ثلاثة طلاب، وضع كل واحد منهم على الطاولة كومبيوترا محمولا، يعملون في هدوء وصمت على أجهزتهم. في مدخل المقهى علقت لافتة كتب عليها «هنا يوجد واي فاي»، أي إمكانية اتصال مباشر مع شبكة الإنترنت. قيل لنا إن هذا المقهى أصبح المكان الوحيد الذي يرتاده الطلاب، إذ لم يعد هؤلاء «يتسكعون» في شوارع «دور الجامع» كما كان يحدث في السبعينات والثمانينات. ثمة ثلاثة معالم اشتهر بها هذا الحي العريق، الذي فقد الكثير من بريقه: «سينما الشعب» و«مقهى موريتانيا» ومقهى «مواعيد الشباب».

«سينما الشعب» لا تزال في مكانها تقاوم عاديات الزمان، تعرض هذه القاعة السينمائية، التي كانت واحدة من أشهر قاعات السينما في العاصمة المغربية، في كل يوم شريطين، يبدأ العرض الأول في الثانية ويستمر حتى السادسة مساء، في حين يكون العرض الثاني في الثامنة مساء ويستمر حتى الثانية عشرة ليلا.

لم يتغير شيء في هذا الصدد، ذلك اليوم كانت تقترح على جمهورها شريطين، الأول هندي من بطولة الممثل الأنيق شاروخان، والثاني مغربي من إخراج نرجس نجار بعنوان «عاشقة من الريف»، جمهور «سينما الشعب» التي أصبح اسمها «سينما فيروز» تقلص كثيرا. في الماضي كانت بطاقات دخول هذه القاعة تباع في السوق السوداء، والناس يتزاحمون أمام مدخلها، إلى حد التطاحن، كانت المكان المفضل لطلاب الجامعة، لكنها أصبحت الآن تستقبل روادا، ربما ليس لهم مكان لتزجية الوقت، فيأتون إليها. بضعة عشرات فقط، يدفعون ما بين 15 و20 درهما (نحو دولارين)، في بعض الأحيان يكاد يقتصر الأمر على العاملين في السينما، يقول أحدهم: «إلغاء الضرائب على قاعات السينما جعل هذه القاعة تصمد، لكن الحكومة الحالية أعادت هذه الضريبة، الأمور تزداد سوءا».

وإذا كانت «سينما الشعب» تقاوم جاهدة، فإن «مقهى موريتانيا» اندثر. كان ذلك المقهى قبلة الساهرين الذين يمضون الليل حتى الفجر، أشخاص هدتهم الحياة والتعب، يحتسون القهوة السوداء، حتى تلوح تباشير الصباح، يستمعون إلى أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. كان المقهى لا يغلق مطلقا، من الفجر إلى الفجر، يقدم المشروبات الساخنة والباردة، إضافة إلى الهلاليات، وشرائح البطاطس المقلية. الآن بقي «مقهى موريتانيا» فقط في ذاكرة ناس الرباط، وشيد مكانه فرع لأحد المصارف.

وحده «مقهى مواعيد الشباب» الذي اشتهر باسمه الفرنسي «ريندفو» لا يزال مزدهرا، كان يأتي إليه طلاب الجامعة لتناول شرائح اللحم المشوية على الفحم وأكلات الفاصوليا البيضاء والعدس.

الآن تحول «مواعيد الشباب» إلى تقديم جميع الأكلات التقليدية، ثمة إقبال كبير على هذه الأكلات، لكن من الواضح أن نوعية الزبائن تغيرت، إذ يبدو جليا أن معظمهم من العابرين والزائرين للعاصمة المغربية. في مواجهة «موعد الشباب» لا يزال هناك مطعم صغير يقدم الشواء ورؤوس الخراف المطهوة صامدا، بقيت لافتته كما كتبت قبل سنوات طويلة، لافتة صغيرة بهتت ألوانها لكن الاسم واضح للعيان، وهو «مشواة شليحة».

تقول لطيفة العامودي، التي تعمل رئيسة قسم في «شركة العمران» الحكومية، وتقطن «دور الجامع» منذ سنوات: «لا يزال سكان الحي من (الرباطيين)، لذلك تأثر الحي بهدوئهم والحياة التي تحترم كثيرا الخصوصية»، وهي تعتقد أن موقع الحي في قلب الرباط جعل كثيرين يفضلونه على الأحياء الأخرى، خصوصا بعد أن تمددت المدينة واتسعت. تقول العامودي إن التركيبة السكانية للحي لم تتغير، لذلك الشقق المعروضة للإيجار محدودة جدا، بل تكاد تكون منعدمة. وترى أن الحي فقد فعلا بريقه، لكنه لم يفقد هدوءه ومعالمه الأساسية، من ذلك مثلا أن المركز الثقافي الفرنسي وبداخله فصول تعليم اللغة الفرنسية لا يزال في مكانه.

ثمة فندق من معالم «دور الجامع» شيد قبل عقود، وكان في الماضي قبلة للموظفين الذي ينقلون من مدن أخرى إلى الرباط، ويبحثون عن سكن مؤقت، لكنه الآن بات يستقبل زبائن من شريحة مختلفة، حيث يفضله الطلاب الأفارقة الذين يصلون إلى المغرب للدراسة في جامعاته.

بعض وكالات السفر التي تعمل في مجال النقل البري بين المغرب وأوروبا لا تزال توجد في «دور الجامع»، من ذلك شركة علقت لافتة مع صورة حافلات مريحة وكتبت على لوحتها الأمامية «إسبانبا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا».

ليس «دور الجامع» هو فقط ذلك، إذ ارتبط هذا الحي كذلك باسم واحد من أشهر السياسيين المغاربة على الإطلاق. في هذا الحي عاش المهدي بن بركة، السياسي الهادر. رجل أربك الساحة السياسية المغربية ورجها رجا في حياته، وأربكها بعد اغتياله في منتصف ستينات القرن الماضي. بات حي «دور الجامع» تاريخا أكثر منه جغرافيا.