يوميات مهرجان برلين السينمائي (5): لقطة أولى: هوليوود السياسية

TT

في حديث يوم أول من أمس مع الممثل بن أفلك، ترد ملاحظة تفوت معظم المثقـفين في العالم العربي وخارجه. وهي حقيقة لا تحتاج إلى كثير من الشرح أو الإيضاح: هناك عدد متزايد من الممثلين والنجوم الذين يقومون بإنتاج أفلام تهدف إلى اختيار مواضيع لا تعمد إليها المؤسسة الكبيرة المسماة هوليوود. أفلام تطرح أسئلة حول كل المسلـمات الاجتماعية والسياسية في ذلك البلد الكبير: الحلم، الهوية، البيئة، التقاليد، النقد السياسي للبيت الأبيض (بصرف النظر عمـن يجلس فيه). مات دامون، كما أشرنا، أحد منتجي «أرض موعودة» الباحث في قضايا البيئة وأزمة المزارعين. بن أفلك هو من منتجي «أرغو»، إلى جانب أنه ممثله الأول ومخرجه. جورج كلوني هو منتج آخر لفيلم «أرغو»، إلى جانب ما سبق أن حققه من أفلام نقدية، من بينها «منتصف شهر مارس»، و«تصبحون على خير»، و«حظـا طيـبا». براد بت ينبش في اتجاهات مختلفة، لكن آخر فيلم أنتجه هو «أقتلهم بنعومة» الذي يتعرض لإخفاق الإدارة الأميركية الجديدة في فرص الإصلاح الاقتصادي الذي هدفت إليه. روبرت ردفورد منتج وممثل، ومخرج أفلام أخرى من تلك التي تتساءل عما حدث لأميركا اليوم، كما الحال في فيلمين على الأقل، وهما: «أسود كغنم» و«الصحبة التي تبقيها».

في الواقع، هوليوود السياسية ظاهرة واضحة، تتجاوز قرارات هؤلاء الممثلين ومن سواهم الإقدام على أفلام رسالات عوض أفلام ترفيهية محضة. كل عام، هناك الكثير من الأفلام ذات الأنواع المختلفة التي تلتقي على تجسيد رسالات سياسية، بعضها ليبرالي وبعضها محافظ. وهذا ليس أمرا جديدا. طوال حياتها، عكست سينماها كل ما عاشته الولايات المتحدة من شؤون وشجون.

إنها هوليوود أكثر مما سواها حول العالم، التي أنتجت أفلاما مع وضد كل وضع شهدته الحياة السياسية في القرن العشرين. نعم، تنتج عشرات الأفلام الرديئة والعنيفة وغير المسؤولة في العام، لكنها تنتج في المقابل أفلاما جيدة ولا يمكن بالتالي تصنيفها سلبيا أو إيجابيا على أحد هذين المنوالين.

ما يقصد ممثلون من أمثال: براد بت، ومات دامون، وبن أفلك، وجورج كلوني، ومن سواهم القيام به، هو توظيف وجودهم نجوما لتقديم أعمال شركات أميركية كبيرة (الاستديوهات السبعة والمؤسسات الإنتاجية الرئيسية) لا تكترث لها. ما تكترث له هو أن تنجز أفلاما ناجحة، وهذا ليس بالشيء الذي يستوجب من الناقد الحكم له أو عليه، بل هي قاعدة إنتاجية - اقتصادية فاعلة لا دخل للنقد فيها. ما تتيحه في المضمون، هو حريـة توجـه واختيار سياسي، أحيانا يأتي مغلـفا داخل القصـة تغليفا شديدا، وأحيانا يأتي واضحا. تشاهد «أفاتار» المستقبلي، فإذا به يتحدث - ضمنيا - عن احتلال البيض لأميركا وإبادتهم الهنود الحمر. تتابع «معركة لوس أنجليس»، فتجد في الصميم حكاية تجسـد القوة العسكرية الأميركية ولو من باب تعويض صورها التي هزتها الحروب التي خاضتها هنا وهناك. «ألعاب جوع»؟ تستطيع أن تطرحه كمتحدث عن حال أميركا اليوم قبل حالها غدا. «متوحشون» لأوليفر ستون، يكاد يدعو للسماح بترويج الماريوانا قانونيا، و«الوقفة الأخيرة»، بطولة أرنولد شوارتزنيغر، لمحاربتها. والاثنان يتناولان في الوقت نفسه «العنصر المكسيكي» فيها.

في المقابل، لا يوجد ممثلون نجوم في أوروبا ينجزون أفلاما ذات اختيارات سياسية. في الغالب، هم ممثلون يقومون بما يوافقون على القيام به من مشاريع، سواء أكانت ذات طابع سياسي أو لم تكن. ليس أن القضايا غائبة وأنهم راضون عن كل ما يحدث في بلدانهم ومجتمعاتهم، لكنهم ليسوا من القوة الاقتصادية بحيث يستطيعون مزج النجاح بالرسالة وتحقيق أفلام موازية. وفي معظم الدول الأخرى، ومنها الدول العربية، فإن الممثل إذا ما انتظر فرصـة التمثيل، فقط في الأفلام التي توافق منهجه السياسي، فإنه سينتظر طويلا وربما للأبد.

هوليوود مكروهة من قـبل فريق كبير من المثقفين الأوروبيين والعرب قبل من سواهم. لكن ذلك، وإن لم يكن جديدا، إلا أنه ليس إنصافا لسينما، كانت الأولى التي تصدت للنازية، والأولى التي خاضت غمار الحرب الباردة، والأولى التي تحدثت عن الخطر النووي، والأولى التي اهتمـت بمعاينة الأزمات الاقتصادية الأميركية ذاتها (فكـر «أعناب الغضب» 1940). موقف المثقـف السياسي من أي شيء، يجب ألا يحجب الحقائق، ويجب ألا يـقاد للتأييد أو للمعارضة على أساس آيديولوجي، بل يجب ألا يكون الأرضية التي يتم عليها بناء الحكم على فيلم أو على سينما. أي فيلم وأي سينما.