«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي : «برلين» يفتح أبواب السجون

مشهد من «وقفة طفل» من إخراج كالين بيتر نتزر
TT

هذا العام يتعامل مهرجان برلين مع سجون كثيرة. في الواقع أكثر من فيلم في المسابقة (وخارجها أيضا) يصور حياة أشخاص هم سجناء مؤسسات مختلفة.

بداية، ومن دون الخوض في البديهيات، هناك بضعة أفلام فلسطينية أو أخرى إسرائيلية أو ثالثة أوروبية أو أميركية تتناول الأوضاع الفلسطينية، ومعظمها يصور ذلك الجدار العازل الذي بنته إسرائيل كسجن كبير يعيش داخله فلسطينيو الأرض المحتلة. القلب في مكانه الصحيح بالنسبة لأفلام مثل «إنشا الله» و«فن / عنف» و«الانتظار»، لكنها الأفلام الروائية وحدها هي التي تستطيع أن تترك الالتزام بعناصر المنظر المحدد وتصبح، على نحو أو آخر، أكثر طرحا للنقاش.

ردود الفعل على «فن / عنف» و«إنشا الله» بين النقاد الغربيين في مجملها هي من النوع الذي يسود معظم الحالات المشابهة: «لقد شوهدت القضية من كل جوانبها وليس هناك من جديد فعلي يمكن حتى لفيلم تسجيلي أن يوفره فوق ما وفرته الأفلام السابقة».

وجهة النظر هذه مؤيدة من قبل الغربيين الذين لم يعد كثيرون منهم يكترثون أين الحق من الظلم في هذه المسألة، وعلى قول أحد نقاد صحيفة «برلينر زايتونغ» في دردشة قبل بدء عرض أحد هذه الأفلام: «عليك أن تعرف أننا بتنا نعرف كل شيء، ونجد دائما أنفسنا ساحة صراع أفكار. كل فريق يحاول تأليبنا على الفريق الآخر». ومع أن الصحافي عجز عن الإتيان بنماذج تؤكد كلامه إلا أن الناس ولدت وعاشت وبعضهم مات وهو لا يزال يعيش «الوضع الفلسطيني» بكل عقده وحروبه وتشتتاته.

إذا كان حديث السجون من وجهة نظر القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي على هذا النحو فإن الحديث المتجدد يكمن في المواضيع التي وفرتها بعض الأفلام المتسابقة على الدب الذهبي. وعمليا هناك أكثر من سجن وأكثر من مفهوم له.

في «الراهبة» و«كاميل أوديل 1915» سجنان متقاربان. كلاهما فرنسي وكلاهما يعود إلى فترة من الماضي وكلاهما حول امرأتين سجينتي دير أو مؤسسة للعناية بالمعتوهين تابعة لدير. «الراهبة» نظرة قاسية وسينمائيا جيدة من المخرج جيليان نيكولوس على ظلم حاق بفتاة شابة (بولين إتيان) لا ترغب في البقاء في الدير راهبة. في المقابل نجد كاميل كلوديل (كما تؤديها برونو دومون) بدورها سجينة مصحة للمعتوهين والمتخلفين، وهي ليست كذلك وإن كانت لديها هواجسها النفسية. كلتاهما ترغب في الحرية ولا تحصل عليها. السجن هنا مؤسساتي كبير تديره الشؤون الدينية وتعمل بمقتضى أحكام لم يكن من الممكن (والأحداث في الفيلمين تاريخية بعيدة) نقضها. وتحاول بطلة «ليلى فوريه» تجنب دخول السجن بعدما دهست بسيارتها رجلا في حادثة، بينما تسعى بطلة «وقفة طفل» وهو من رومانيا لتجنيب ابنها دخول السجن بعدما دهس بسيارته طفلا. كذلك فإن السجن في مفهوم أوسع موجود في «الموت الضروري لتشارلي كنتريمان» لفردريك بوند، حيث تتحول بوخارست إلى فخ محكم. أما «في طريقي» لإيمانويل بيركو فإن بطلته (كاثرين دينوف) تنطلق هاربة من سجن حياتها السابق بحثا عن حرية ما قبل أن تختفي.

* أفلام برلين

* «ستائر مسدلة».. وجهة نظر من داخل السجن Parde *** (ستائر مسدلة)

* إخراج: جعفر باناهي وكامبوزيا بارتوفي إيران

* المشهد الأول من «ستائر مسدلة» والمشهد الختامي من الفيلم ذاته عبارة عن كاميرا ثابتة على بوابة حديدية تقع خارج النافذة. اللقطتان داخليتان والكاميرا تطل على النافذة ثم على ذلك الحاجز بعدها ومنهما على الشاطئ البعيد. في استخدامها الأول، لا يمكن إلا إدراك أن المخرج يصور لقطته للحياة خارج المنزل من وجهة نظر فرد لم يغادره. فرد مسجون. وعندما تتحرك الكاميرا بعد أكثر من دقيقتين لتتابع وصول رجل يحمل حقيبة سوداء مغلقة يبدأ الفيلم سرده للحكاية: هذا الرجل متوسط العمر يهرع لدخول منزله. يفتح الحقيبة ويخرج كلبه منها، فالكلاب ممنوعة (!) في المجتمع الإيراني المسلم، لكن هذا الرجل يحب كلبه ويحرص عليه. ما يحرص عليه هذا الرجل أكثر هو وحدته وعزلته داخل البيت. يسارع إلى النوافذ الكبيرة ويسدل ستائرها ثم يضع ستائر سوداء إضافية. هدفه أن يبدو المنزل (وهو كبير من ثلاثة طوابق) كما لو كان مهجورا. إذ يفعل ذلك، يحاول الجلوس إلى طاولته ليكتب حكايته. لكن دخول شاب وفتاة بيته عنوة يضعه في موقف المدافع، خصوصا وأنه لا يعلم من هما ولماذا قصداه. ما يلبث الشاب أن يخرج تاركا الفتاة معه، وهذه تسبب له المشكلات، خصوصا عندما تبدأ نزع الستائر. هنا ينقلب الفيلم من حكاية واقعية (أي يمكن حدوثها) إلى عمل سوريالي تتدخل فيه الخطوط بلا انضباط: المخرج الممنوع جعفر البناهي نفسه يظهر هنا. البيت بيته (في الواقع أيضا) وهو الحبيس، وعلى الرغم من أن الفتاة الهاربة جالسة ترقبه، فإنها ليست موجودة في حاضره. بذلك فالواقع ينظر إلى عين الحقيقة والعكس. الفيلم الآن هو مزيج من وصف لحالة رجل غريب ممتزجة بحالة المخرج. الأول يحاول تجنب البوليس (يطرق الباب ولا يرد) والثاني يعيش ما بعد الحكم عليه. لكنه سوف يترك البيت ويغادر منطلقا بسيارته وسوف يترك البيت (والكاميرا فيه) عند النهاية.

* «وقفة طفل».. الإجادة الفنية وحسن الصياغة Child`s Pose (وقفة طفل) إخراج: كالين بيتر نتزر رومانيا

* في «ليلى فوريه» الآتي من جنوب أفريقيا، تدهس بطلة الفيلم رجلا في عز الليل في طريق ريفي مظلم، ويحاول ابنها الصغير الدفاع عنها بالتكتم على ما كان شاهدا عليه. لكن في «وقفة طفل» ابن البطلة (وهو رجل كبير) هو من يدهس طفلا وأمه هي من تدافع عنه.

نحن في رومانيا اليوم. الأم (لومينيتا جيورجيو) سعيدة في حياتها بعد الأربعين (بداية شبيهة ببداية فيلم «غلوريا» التشيلي الذي عرضناه هنا قبل أيام)، إلى أن يصل إليها نبأ صدم ابنها لطفل على الطريق السريع. الطفل مات، وهي آسفة لكن باربو (بوغدان دومتراشي) هو ابنها ولا تريده أن يدخل السجن. تتابع من هنا مساعيها الحثيثة لإنقاذ ابنها، ومع كل خطوة في هذا المجال يعلمنا الفيلم جديدا بخصوص الحادثة ذاتها: الابن كان يقود سيارته بسرعة فائقة. حاول تجاوز سيارة أخرى لذلك لم يرَ الطفل الذي انطلق أمام السيارة الأولى إلا بعد أن صدمه. من ناحية، الحق عليه بسبب سرعته، ومن ناحية أخرى، بعض الحق على والد الطفل الذي لم يمنعه من اجتياز الطريق السريع. مثل أفلام أخرى في هذه الدورة، هناك قدر من الإجادة الفنية وحسن الصياغة والتمثيل، لكن الفيلم بالكاد يستحق جائزة لأن هذه الإجادة ليست من النوع الذي يرتقي بنوعية الفيلم، بل من النوع الذي يرفعه من مستواه بعض الشيء.

The Necessary Death of Charlie Countryman * إخراج: فردريك بوند الولايات المتحدة

* حين غادر شايا لابوف، الممثل الذي يقود بطولة هذا الفيلم المفتعل، برلين عائدا إلى لوس أنجليس بتذكرة أولى (طبعا) تأخرت طائرته وفقد الممثل أعصابه وتشاجر، كما يقول صحافيون، مع الشركة التي سيسافر على متن إحدى طائراتها. ربما لديه أسباب مختلفة وخاصة، لكن رد فعل الجمهور والنقاد حيال فيلمه هذا يمكن أن يكون سببا من هذه الأسباب، بل ماذا لو أن وقع الفيلم عليه كان سلبيا لدرجة أنه غضب من برلين لعرضه ومن المخرج لتحقيقه ومن نفسه أن صدق أن المشروع جيد قبل أن يقدم عليه؟

فيلم «الموت الضروري لتشارلي كنتريمان» له شبه بعنوانه من حيث إن كلمة «كنتري» وحدها تعني «الريف»، و«مان» تعني «رجل» وإطلاق هذا الاسم على بطل الفيلم أمر مفتعل كما هو أسلوب المخرج تماما. في الأساس حكاية تشويقية لرجل ماتت والدته وتراءت له تطلب منه زيارة بوخارست ولم ينتظر، لكن منذ وصوله والعنف يطارده. لقد تعرف على متن الطائرة إلى روماني عجوز وصاه خيرا بابنته ومات قبل أن تحط الطائرة على أرض المطار. الابنة هي امرأة (إيفان راتشل وود) متزوجة برجل شرير (ماس - ولو أنها تكتب مادس - ميكلسن)، والشاب يقع في حبها ويلاحقها لكنه يضرب ويلاحق ثم يلقى القبض عليه ويضرب مجددا ويعلق من كرعوبه ولن يخرج من بوخارست إلا بين الحياة والموت، ليكتشف أن والدته قصدت بودابست وليس بوخارست... ها ها ها! من السهل القول إن الفيلم سيئ، ومن الصعب تحليل أسباب سوئه، فهي متعددة. لكن ما يمكن قوله في استعراض موجز هو حكمة هوليوودية قديمة: إذا كنت تريد أن تسرد حكاية تشويقية فاسرد حكاية تشويقية، وإذا كنت تريد أن تضحك... فاضحك، وأن تخيف... فافعل... لكن لا تحاول أن تصنع فنا في غير مكانه». وفردريك بوند حاول كسر هذا التقليد فكسر فيلمه لما بعد القدرة على تصليحه.