الأفلام المتنافسة على الذهبية تواجه اختيارا صعبا

خيبة أمل في دورة ضعيفة

مشهد من فيلم «في طريقي»
TT

سبعة أيام مرت على أيام الدورة الثالثة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي، والسؤال الذي يجمع بين كل الحضور «أهذا هو كل شيء؟».

هو سؤال يعكس خيبة الأمل في دورة ضعيفة لم يجتمع لها أكثر من ثلاثة أو أربعة أفلام كانت تستحق العرض، وكل واحد منها لا يخلو من مناطق ضعف. لكن المشكلة في تلك الضعيفة على نحو شامل، والتي كان آخر ما شاهدناه منها فيلمان هما آخر أفلام المسابقة (يعرضان للجمهور اليوم)، أولهما فيلم فرنسي عنوانه «في طريقي» لإيمانويل بيركو يكتنز كل ما هو معروف عن السينما الفرنسية التقليدية: ثرثرة كلامية تتبادلها شخصيات تهم الفرنسي قبل سواه في أسلوب عمل مستطرد وحكاية تهدد المشاهد بألا تنتهي، والثاني هو «هايوون.. ابنة لا أحد» للكوري هونغ سانغسو، وهو أسوأ من سابقه على نعومة حواشيه وابتعاده عن أي استعراض بصري، مما يجعله يبدو كما لو أنه صوّر لحساب محطة تلفزيونية تعمل تبعا لميزانيات منخفضة.

ينضم هذان الفيلمان إلى مجموعة الأعمال التي تجعل الحاضر يتساءل عمّن تكون لجنة الاختيار وفي أي برج عاجي تعيش. صحافية ألمانية داومت الحضور على هذا المهرجان منذ عقدين تقول «من يستطيع تغيير الحال هو الصحافة الألمانية. نحن ننتقد بشدة. وأعتقد أن رسالتنا ستصل». صحافي ألماني يضيف موضحا «هناك نقد شديد هذه السنة، فالأفلام دون المستوى المنشود لمهرجان دولي. الصحافة تريد مقابلة مدير المهرجان دييتر كوزليك (الذي تم تجديد عقده لعام 2016) وتنبيهه أن هذا الأمر مرفوض».

* لجنة السنوات العشرين

* المتهم الرئيسي هو مدير المهرجان، لكن المذنب متجسد في كيان من المبرمجين. لجنة اختيار لم تتغير منذ عشرين سنة. أحيانا (كالعام الماضي) تصيب، وفي أحيان كثيرة (كهذا العام) تخيب. ليس هناك دم جديد يجري في شريان المهرجان بل مواصلة لما هو معهود.

هذا يزداد تأثيرا عندما ندرك أن هذه اللجنة ذاتها أغفلت اختيار واحد من أفضل الأفلام الألمانية في السنوات الأخيرة، وهو «حياة الآخرين» لفلوريان هنكل فون دونرزمارشك (عن ويلات الاستخبارات الألمانية الشرقية في الأيام السالفة) الذي نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي سنة 2007. كذلك حين نضيف أنها المرة الأولى هذا العام التي نجد فيها المهرجان الألماني العتيد يستقبل في عروضه الرسمية أعمالا أميركية بعد عرضها في مهرجان ساندانس الدولي. هذا كان شأن «برينس أفالانشي» و«قبل منتصف الليل».. والأول داخل المسابقة ولا يستحق - أيضا - أن يكون.

طبعا هناك أفلام تسترعي الانتباه، لكن الزخم والحماس يبدو أنهما باتا على مسافة بعيدة مما هو معروض على الشاشة الكبيرة، مثل الفيلم الكازاخستاني «دروس تجانس» لأمير بايغازين، وهو فيلم من الغالبية اللافتة التي لا تنجز كامل وعودها: صبي في إحدى المدارس يعيش مع جدته في تلك البلدة الريفية التي تغطيها الثلوج. في مطلع الفيلم نراه يلاحق خروفا حتى يقبض عليه ويذبحه. تسأله جدته «هل قرأت البسملة عليه؟»، لكنه لا يجيب. هو يعاني من مرض «التوحد» (ولو أننا شاهدنا أفلاما تقدم خصال هذا المرض على نحو أفضل)، وفي المدرسة قليل الاختلاط والحديث. تعجبه فتاة محجبة نراها ترفض طلب المعلمة بخلع الحجاب. لكن الحجاب لن يُطرح بعد ذلك، بل يبقى الصبي محور كل شيء. هناك عصبة من الطلاب تفرض الخوة ويقودها شرير. وصبي في الصف يرتقي في تلك العصبة، ويضرب الصديق الوحيد للشاب بطل الفيلم. ومن دون أن نرى الفاعل يُقتل الصبي الشرير، وتأتي الشرطة لترتاب مباشرة في بطل الفيلم وصديقه.

* نتوءات

* من هنا فهو طريق غير معبد يتعرض فيه الفيلم لخضات كبيرة. فالمنوال يتغير لنجد الفيلم الذي كان يتحدث عن مشاكل «توحد» الشاب وطريقة حياته واهتمامه بالبيولوجيا والحشرات (يقبض على صراصير ويطعمها للسحالي) أصبح يتحدث عن تعذيب رجال البوليس العنيف للولدين الصغيرين. طبعا لا خلاف هنا لو أن الفيلم ينقل حادثة حقيقية، بل لا خلاف هنا أيضا لو بني العمل بأسره حول هذا الادعاء، لكن تقديمه على هذا النحو يجعله يتخذ شكل نتوء في خاصرة العمل كان من الأفضل لو لم يكن.

لكن «في طريقي» لا يشكو من النتوءات. كله نتوء واحد. كاثرين دينوف (أضخم من المعتاد لكنها لا تزال تجيد أداء ما تمثله) لديها وأمها مطعم في بلدة فرنسية صغيرة. واليوم الأول تخصصه المخرجة إيمانويل بيركو لتصور المشاكل العائلية التي تحوم فوق رأس بطلة الفيلم «بتي»، مما يجعلها تقرر ليل أحد الأيام ترك زبائنها ينتظرون السمك المقلي وتركب سيارتها وتنطلق في رحلة إلى الأرياف غير مخطط لها. طبعا تتساءل كيف ستتصرف إذا ما أرادت أن تأكل أو تلجأ لفندق.. لكن لحظة.. ها هي حقيبتها اليدوية الصغيرة متروكة في السيارة من اليوم السابق وفيها بطاقة مصرفية. في منتصف الطريق ستبلع الآلة بطاقتها.. لكن ذلك لن يوقفها عن المتابعة. هذه السيارة لا تحتاج إلى بنزين على الإطلاق! سيناريو «في طريقي» يبدو مكتوبا من دون خطة مسبقة. هذه المرأة تجد نفسها في سرير رجل يصغرها بجيل ونصف الجيل من دون أن تتذكر كيف. تفقد طريقها وسط الحقول قبل وبعد أن تلتقي بحفيدها الصبي الذي تحاول العودة به إلى منزل والدته. تلتقي في صدفة خير من ألف ميعاد بكل ملكات جمال فرنسا السابقات (إذ كانت هي واحدة منهن قبل عقود) في فندق كبير وهن يحتفلن باللقاء. فجأة تسقط بتي من طولها فاقدة الوعي. الطبيب في اليوم التالي مطمئنا المشاهدين «هذا عارض لا أرى أنه يستوجب بقاءك في المستشفى. لقد أجرينا الاختبارات والنتائج كلها سليمة» (ربنا يسعدك يا دكتور!). ومن الذي سيعود إليها؟ زوجها السابق الذي سينقلها إلى مزرعته حيث يلتئم شمل كل العائلة في ربع ساعة كاف للقضاء على بذور الاهتمام التي حواها البعض.

واحد من المعجبين بالفيلم (زميل يكتب في يومية أخرى) قال «هذا الفيلم سيربح الدب الذهبي» طبعا في اليقين هنا أنه لن ينال حتى الدب الأسود، لو كان هناك واحد من هذا النوع.

* احتمالات الجوائز

* حديث الدببة يقترب فعليا. نحن في اليوم الثامن ولجنة التحكيم شاهدت كل الأفلام، كذلك فعلت لجنة اتحاد النقاد الدوليين (التي ينتمي إليها ناقد «الشرق الأوسط») التي اتفقت حتى الآن على منح جائزتها للفيلم الروماني «وقفة طفل» (هو بالفعل من القلة الأفضل التي شوهدت هنا). لكن لجنة التحكيم الرسمية، تلك التي يقودها وونغ كار واي هي من عليها أن تسبر غور الحقيقة بحثا عن الفيلم الأمثل في هذه الحالة:

أيكون «غلوريا» التشيلي حول حق امرأة فوق الستين في أن تعيش حياتها العاطفية كما تريد؟.. أو «حياة طويلة وسعيدة»، الفيلم الروسي الذي يبحث موضوع ابن البلدة الذي يرفض مغادرة قريته؟.. هل يخطف الدب الذهبي الفيلم الروماني «وقفة طفل» أو الفيلم الإيراني «ستائر مسدلة»؟.. هل هذا هو الوقت المناسب للعب سياسي من نوع منح جعفر بناهي جائزة أولى فقط لأنه سجين نظام متسلط، أم أن لجنة التحكيم لن تجد فيه ما يكفي من خصال فنية لمنحه هذه الجائزة؟.. ماذا عن «دروس انسجام» الكازاخستاني؟ له جوانب لافتة لكن هل تكفي لانتخابه فائزا؟

لجنة التحكيم لن تجد الطريق سهلا أمامها، والأفلام المذكورة وبعض الأخرى تجمع بين حسنات وسيئات. في الواقع ليس هناك من فيلم معروض في المسابقة يخلو من السلبيات وبعضها يقترب كثيرا من خلوه من الإيجابيات.

* مخرجون يقولون

* لمزيد من إيضاح الصورة، سألت عددا من السينمائيين الذين شاركوا في هذه الدورة عن أعمالهم، وكيف يرصدونها في خضم مهرجان ضخم وكبير كـ«برلين»، أو كيف ينظرون ويقيمون هذا المهرجان ككل.

* جوزيف غوردن - ليفيت: (مخرج «إدمان دون جون» الذي عُرض في مهرجان «صندانس» الأميركي ثم وجد طريقه إلى البانوراما البرلينية)

* كيف تجد رد الفعل على فيلمك ما بين «صندانس» وبرلين؟

- أعتقد أن الناس في كل مكان يرحبون بالفيلم، ولو أنهم يملكون الفهم الخطأ أحيانا. أعني أن الفيلم ليس فيلما فضائحيا كما يخيل لهم، لكن على الرغم من هذا المفهوم فإن الإعجاب لا يفتر به. لقد تابعت كل كلمة نقد نشرت على الإنترنت استطعت الحصول عليها، ووجدت أن النقاد والجمهور ممن يعلق على الفيلم متفقين على أنه فيلم شامل. الإعجاب به كان عاليا. سأقرأ ما سيكتبه النقاد هنا. لكن من ظاهر الأشياء أدركت أن الجمهور الأميركي والأوروبي له ذوق واحد في مسائل كثيرة، وحين يطرح الفيلم مسألة جادة كالتي يطرحها الفيلم. لذلك أنا سعيد باختياره في هذا المهرجان.

* مايكل وينتربوتوم (مخرج «نظرة الحب» الذي تم تقديمه خارج المسابقة)

* شاهدت أحد أول أفلامك وهو «قبلة الفراشة» هنا في برلين سنة 1996، واليوم تقدم فيلمك الجديد الثالث والثلاثين «نظرة الحب».. كيف ترى الفوارق من ذلك الحين إلى اليوم؟

- «قبلة الفراشات» كان فيلمي الأول، وسعدت جدا حين تم اختياره للعرض في برلين في ذلك العام. وأنا لم أنقطع تماما عن هذا المهرجان، بل عدت إليه أكثر من مرة. أذكر في المرة الأولى أن كل شيء كان جديدا، بطبيعة الحال من دون شك، وكانت الأفلام تعرض في صالات غير الصالات العصرية التي نرى الأفلام عليها اليوم. مهرجان برلين سهل وحين تخبر فريق العمل أننا ذاهبون إليه يتحمسون، فالانتقال من لندن إلى برلين سهل، ووجود الأفلام في مساحة مكانية محدودة يجعل من السهل أيضا مشاهدتها.

* دانيش تانوفيتش (مخرج بوسني قدم في المسابقة «فصل من حياة جامع خردة»)

* كيف ترى المهرجان الألماني كمناسبة لعرض الأفلام الأوروبية خصوصا أنك قدمت أفلامك في أكثر من مهرجان.. ما الذي يميزه عن «كان» مثلا؟

- نعم.. قدمت أول أفلامي «أرض محايدة» (No One›s Land) في مهرجان «كان»، وقبل عامين قدمت في فينيسيا فيلم «سيرك كولومبيا»، والآن هذا الفيلم هنا. أعتقد لكل مهرجان مزايا تجعله مختلفا عن الآخر. وليس من السهل إيضاح ما أقصد. «كان» هو إطلالة عالمية لا بد منها لأي مخرج. «برلين» مشهود له بنوعية جمهوره وفينيسيا بتاريخه العريق.

* أي من هذه المهرجانات أفادك أكثر حتى الآن؟

- «كان» بالطبع عرّف العالم بي. هذا لم يكن إنجازا صغيرا. لكن بعد ذلك تتساوى المناسبات في نظري. المهم هو الفيلم الجيد واختيار المهرجان المناسب له.

* هل تعتقد أنك اخترت المهرجان المناسب لفيلمك الجديد «فصل من حياة جامع خردة»؟

- بالتأكيد. أحاول أن لا أفكّـر بالجوائز لكن الشعور والحماس الذي يصاحب المهرجان في هذه الأيام الأخيرة يفرض عليك الاهتمام.

* ديفيد غوردون غرين (مخرج أميركي قدم «برينس أفالانشي» في مسابقة «برلين» بعد عرضه في مهرجان «صندانس»)

* هل تعتقد أن مهرجان برلين مناسب لفيلم كوميدي خصوصا أن الكوميديا تلتصق عادة بهوية محددة أكثر من سواها؟

- دعني ألا أوافق على هذا الرأي. الكوميديا مثل الدراما تستطيع أن تنجح في كل مكان بصرف النظر عن هوية المكان وشعبه. الأمر الحاسم هو إذا ما كان الفيلم يستحق التقديم كفيلم مهرجانات وأين.

* هل تعتقد إذن أن «برلين» كان مناسبا؟

- بالتأكيد.. كانت مفاجأة طيبة لي عندما اختار المهرجان فيلمي. لكني أفهم وجهة نظرك في الوقت نفسه. علي أن أقول إن عرض الفيلم في «صندانس» يختلف عن عرضه في برلين من حيث أن «صندانس» هو مهرجان أميركي بالدرجة الأولى. والفيلم يقدر سريعا هناك، بينما برلين مهرجان أوروبي أولا والسينما الأميركية زائرة. بصرف النظر عن رأي لجنة التحكيم فإنني أعتقد أن الفيلم يحمل المواصفات الصحيحة للعرض في مسابقات دولية كما هو الحال هنا.