فاس تتجدد وترمم نفسها تحت شعار «إنقاذ المدينة العتيقة»

اليونيسكو اعتبرتها تراثا إنسانيا.. وبها أقدم جامعة في العالم درس فيها بابا للفاتيكان

جانب من الآثار والأسوار التي رممت في فاس العتيقة (تصوير: أحمد العلوي المراني)
TT

تعكف فاس ومنذ سنوات على ترميم تاريخها. وهو ما يهدف إلى تحقيق هدفين، أولا الاحتفاظ على آثار اعتبرتها منظمة «اليونيسكو» تراثا عالميا، وفي الوقت نفسه تحويل المدينة العتيقة إلى نقطة جذب سياحية. وفي هذا السياق يدخل إعادة ترميم الكنس اليهودي، الذي يطلق عليه اسم «بيعة صلاة الفاسيين» - والذي جرى في حفل رسمي كبير. وكان هذا الكنس شيد في القرن السابع عشر، وظل حتى بداية السبعينيات، لكنه أهمل بعد ذلك إلى أن تقرر إعادة ترميه، ودشن أخيرا تدشينا رسميا.

مرد الاهتمام بمدينة فاس وآثارها، يعود إلى أن المغاربة يعتبرونها «العاصمة العلمية» للبلاد، ونظرا لتراثها الزاخر وأهمية الأدوار التي قامت بها في التاريخ المغربي، منذ تأسيسها من طرف «المولى إدريس الثاني» عاصمة لدولته في القرن التاسع الميلادي.

وعلى الرغم من تقلبات الزمن، فإن فاس استطاعت أن تصمد وتقدّم أفضل نموذج للمدينة العربية الإسلامية في شكلها العمراني وتنظيمها الاجتماعي والاقتصادي. إذ هي تزخر بمئات المآثر التي بلغت ذروة الروعة والإتقان، وهي الآثار التي عرفت في الآونة الأخيرة حركة ترميم واسعة النطاق. مثل المدارس والجامعات القديمة وكذا بعض الدور، والجوامع والمساجد. وتفيد الإحصائيات أن هناك 700 مسجد وجامع ونحو 400 من القصور والدور الكبرى، صنفت باعتبارها من آثار فاس.

ولهذه الاعتبارات صنفت من طرف منظمة اليونيسكو تراثا إنسانيا عالميا عام 1980، وكانت بذلك أول موقع ثقافي مغربي يحصل على هذا التصنيف، وبتزامن مع ذلك الإعلان شرعت عدة جهات حكومية ومنظمات غير حكومية من داخل وخارج المغرب، ورجال أعمال من أبناء المدينة في حملة أطلق عليها «إنقاذ المدينة العتيقة»، بدأت تظهر آثارها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياحية. كما ساعد تصنيف اليونيسكو على وضع خطة دائمة لإنقاذ مدينة فاس وإعادة الاعتبار لها، خاصة بعد أن أصبحت قبلة للزوار من جميع أنحاء العالم.

وتدخل سياسة إعادة الاعتبار لمدينة فاس العتيقة في إطار خطة مغربية، تتكون من أربعة عناصر أساسية وهي الهندسة المعمارية والتهيئة الحضرية وحماية التراث والتنمية المحلية.

ويلاحظ حاليا أن فاس بدأت تنال اهتماما خاصا، وأصبحت موضوع مشاريع جديدة من أطراف مغربية ودولية، لها إدراك خاص لقيمة التراث وأهميته. وحفز هذا الاهتمام بعض الشخصيات والعائلات المتحدرة من فاس، للتبرع بترميم مجموعة من البنايات الأثرية والمؤسسات العمرانية في فاس العتيقة. والطريف في الأمر أنه كل ما فرغت جهة ما من ترميم آثار هذه المدينة التي تعد «تحفة تاريخية وعمرانية» بسبب موروثاتها الثقافية الكبير ومآثرها، حتى يتم اكتشاف آثار جديدة.

وفي إطار ترميم فاس لمعمارها وآثارها في الآونة الأخيرة، لم يقتصر الأمر على نوع معين من الآثار، إذ هناك المساجد التاريخية في المدينة العتيقة. وهي من المآثر الفنية التي تمثل الثقافة والمعمار المغربي الأصيل، كما تمثل إبداعات حية تجسد الفن الإسلامي بمعناه الواسع، وتشتمل على كنز فني وثقافي ذي قيمة نادرة نجده غالبا في النحت على الخشب والجبس والحجر والنافورات والأعمدة والأقواس والثريات التقليدية والمخطوطات والكتب غيرها.

كما تم ترميم «مدرسة العطارين» الواقعة شمال جامع القرويين في فاس، وهي من أجمل المدارس المغربية على الرغم من ضيق مساحتها، بسبب زخارفها البديعة التي تجعل منها تحفة عمرانية نادرة. وكان قام بتشييدها السلطان المريني أبو سعيد عثمان ما بين عام ‏1323 و1325 ميلادية. وتتألف هذه المدرسة من صحن مكشوف فيه حوض ماء، تحيط به قاعة للصلاة مربعة وصالات معدة لاستقبال الطلاب.

أما «جامعة القرويين» فهي أقدم جامعة أنشئت في تاريخ العالم وأقدمها على الإطلاق، بنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي قامت ببنائه فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني نسبة لمدينة القيروان عام 245 هـ - 859 ميلادية في مدينة فاس. وتقول موسوعة غينيس للأرقام القياسية إن هذه الجامعة هي أقدم جامعة في العالم ما زالت تستقبل حتى اليوم طلاب العلم. وقد تخرج منها علماء الغرب، وقد بقي الجامع والجامعة العلمية الملحقة به مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني قرابة الألف سنة. وكان الجامع الذي شيّد في 859 ميلادية (245 هجرية) مهدّدا بالتصدّع الناتج عن الإهمال الذي كان عرضة له خلال عقود من الزمن، إذ تعود آخر أشغال الترميم فيه إلى حقبة الحماية الفرنسية، وتركت عوادي الزمن شقوقا في جدران الجامع وأسسه وتسرّبت إليه مياه المطر إليه كما ظل يعاني من آثار الرطوبة.

وكان الملك محمد السادس قد طلب في سبتمبر (أيلول) عام 2004 بترميم وصيانة المسجد الذي تسع طاقته لأكثر من عشرة آلاف شخص. وشملت أشغال الترميم، القباب المضلّعة والمقرنصة والدائرية منها، وأكاليل أعمدتها وعقود أقواسها وأفازير أبوابها، كما أعيد الاعتبار للمظلتين البديعتين على الجناح الشرقي والغربي للصحن الفسيح وأعمدتها الرخامية. وجرى أيضا ترميم الأبواب الثمانية عشر الخشبية للجامع. وخلال أشغال الترميم تم اكتشاف آثار غير مسبوقة وزخارف كانت غير معروفة، تم اكتشافها تحت أرضية مسجد القروييّن أواخر يناير (كانون الثاني) عام 2006، ومكنت أشغال الحفر التي شملت نحو 172 مترا مربّعا من اكتشاف جدران منازل تحمل رسوما للزينة على الجبص تعود حسب علماء الآثار إلى حقب تاريخية تسبق عملية توسيع الجامع التي قام بها المرابطون عام 529 هجرية، مرجّحين أنها تعود إلى السنوات الأولى لتشييد هذا الصّرح الديني عام 245 هجرية.

كذلك من بين المآثر التي أعيد ترميمها الأسوار المحيطة بفاس «المدينة القديمة»، وهذه الأسوار الضخمة والتي تحيط بمدينة فاس من كل جانب، تعود إلى فترة حكم الناصر الموحدي الذي امتد من عام 1199 إلى عام 1213، على الرغم من أن الأبواب التي تخترقها تحمل أسماء تعود إلى فترة حكم الأدارسة والزناتيين ومنها، «باب الفتوح» و«باب الكنيسة» و«باب الحمرة» و«باب الجديد».

كما شملت عملية الترميم البرج الشمالي حيث بني هذا الحصن الذي يوجد شمال فاس البالي عام 1582 من طرف السعديين. ويستمد تصميمه من القلاع البرتغالية التي تعود إلى القرن السادس عشر، وهو يحتضن حاليا متحف الأسلحة. وشمل الترميم أسوار القصر الملكي والدور العتيقة الآيلة للسقوط.

وطالت حملة الترميم «المدرسة البوعنانية»، وتعد هذه المدرسة التي أسسها السلطان أبو عنان المريني ما بين أعوام 1350 و1355ميلادية، من أشهر مدارس فاس والمغرب، إذ بالإضافة إلى دورها كمؤسسة لتعليم وإقامة الطلبة، كانت تقام فيها صلاة الجمعة. وهي تتوفر على صومعة جميلة البناء والزخرفة إضافة إلى ساعة مائية.

وخلال القرن السابع عشر عرفت فاس بناء حي خاص باليهود يطلق عليه في المغرب اسم «الملاح»، ويعتبر ذلك الحي أول «ملاح» في المدن المغربية. يعود وجود الطائفة اليهودية في فاس إلى الحقبة الرومانية، حيث كان هناك مركز يهودي منذ عهد المولى إدريس الثاني. ومع مجيء الرومان قرر اليهود الحفاظ على لغتهم وطرقة صلواتهم، لهدا الغرض أنشئت «بيعة صلاة الفاسيين» في حي «الملاح»، بحيث تتماشى مع الطقوس الفاسية العريقة المشابهة للطقوس اليهودية، ولكن بنصوص محددة تتم تلاوتها على طريقة «بيعة صلاة الفاسيين» إلى غاية السبعينيات.

وتم تدشين الكنيس اليهودي «صلاة الفاسيين» بعد إعادة ترميمه، والمعروف بـاسمه «بيعة صلاة الفاسيين» لدى يهود فاس في حفل رسمي، بحيث وجه العاهل المغربي الملك محمد السادس رسالة رسمية إلى ذلك الحفل. وعبر جاسك طوليدنو الرئيس التنفيذي لمؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي، عن اعتزاز المؤسسات اليهودية بالمغرب، وهو ما أكده بدوره سيرج بيرديغو، رئيس التجمع العالمي لليهود المغاربة، الذي وصف هذا التدشين بالمثال الحي على غنى وتنوع المغرب.

يشار أن «بيعة صلاة الفاسيين» شيدت في القرن الـ17 بحي الملاح اليهودي، وتقع في «زقاق المرينيين» وهي عبارة عن بناية فسيحة ومرتفعة وتمتد على مساحة 170 مترا مربعا، وقد أشرفت على عملية ترميمها مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي بدعم من الحكومة الألمانية.