صناعة الفحم في عاصمة الفحم «تحتضر»

«المشحرجية» في يعبد شمال الضفة يلجأون للفحم المصري بعدما كانوا ينتجون فحم الحمضيات الأجود

TT

يتمسك «المشحرجية» في بلدية يعبد في جنين بالطريقة البدائية لإنتاج الفحم الذي تشتهر به البلدة منذ مئات السنين، ويرفضون فكرة بناء أفران جديدة، باعتبار أن الطرق البدائية القديمة تنتج أفضل فحم على الإطلاق، غير آبهين أو متشككين فيما يسوقه المعارضون لهذه المفاحم عن أضرار بيئية.

وبعد سنوات من الصراع على جبهتين؛ واحدة مع إسرائيل التي أوقفت توريد الأخشاب اللازمة لهم، وواحدة مع السلطة التي ضغطت باتجاه تغيير طرائق صناعة الفحم، تبدو المهنة كأنها «تحتضر».

وقبل عام واحد فقط، كان علام أبو بكر، صاحب أحد المفاحم في يعبد، يواصل الليل بالنهار مع 2 من أشقائه، لتصنيع أجود أنواع الفحم المعروف بفحم الحمضيات الذي يصنع من أخشاب أشجار «الجريبفروت» و«الليمون»، أما اليوم، فإنه بالكاد ينتج دورة فحم واحدة (تستمر 20 يوما) كل شهرين أو أكثر، بسبب توقف توريد الأخشاب لهم.

ولا يفهم علام سبب هذه الحرب على المفاحم، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «منذ أكثر من 100 عام، وعائلتنا تعمل هنا، جدي ومن ثم أبي وأنا وأشقائي وأولادنا الآن ورثوا الصنعة، وكنا نعمل على أفضل وجه، أما اليوم، فانقلب المشهد رأسا على عقب. إننا نفقد عملنا».

والحرب الإسرائيلية على هذه المفاحم قديمة، والعام الماضي أخطر الجيش الإسرائيلي أصحاب المفاحم مررا بنيته هدمها، وسن قوانين نغصت عليهم أعمالهم بشكل كبير، ومن بينها منع توريد الأخشاب لهم من إسرائيل وتفتيش العاملين وإخضاعهم للتحقيق أحيانا. يعلق علام: «قلنا لهم إننا نعمل منذ عشرات السنين، وكان أجدادنا يعملون هنا؛ فما الذي جد؟».

وعمليا، لا يتقيد «المشحرجية»، وهو الوصف الشعبي الذي يطلق على عمال المفاحم، باتخاذ احتياطات صحية مشددة، لكنهم يقولون إنهم وجدوا أنفسهم على ما تركهم عليه آباؤهم، ولا يعانون من أي مشكلات صحية. ومدينة جنين واحدة من أقرب المدن الفلسطينية على الإطلاق لإسرائيل التي تقول إن المفاحم مضرة بالبيئة المحيطة، المليئة باليهود والمستوطنين. ولكن أصحاب المفاحم يعتقدون أن ثمة خططا للاستيلاء على الأراضي القريبة من مستوطنات في المكان.

واقترحت السلطة إنشاء مفاحم صديقة للبيئة للخروج من الأزمة، واليوم تبني السلطة أفرانا حديثة في برقين بعيدا عن يعبد، وهو ما يعلق عليه كايد أبو بكر الذي يملك أحد أقدم المفاحم، ويلقب بشيخ المشحرجية، بقوله: «لن تنجح. هذه الأفران لن تنجح. كلفتها عالية وتنتج فحما رديئا».

ومن بين 100 مشغل لإنتاج الفحم في يعبد، يواصل 20 الآن فقط العمل، كما قال كايد، ويوضح: «الناس اضطرت لإغلاق المفاحم بعد منع توريد الأخشاب».

ولا يوجد في الضفة بيارات حمضيات يمكن استغلالها لإنتاج الفحم، كما هو الحال في إسرائيل. وأصبح على مستوردي الأخشاب أن يهربوها تهريبا عبر معابر في جنوب الضفة الغربية، ومن ثم نقلها إلى أقصى الشمال، ورفع هذا من تكلفة الأخشاب.

وبسبب ذلك، انتقل أصحاب المفاحم، ومعظمهم يصنف على أنهم أصحاب مشاريع صغيرة، إلى شراء الفحم جاهزا من مصر، وعلق كايد: «رأس المال الآن يستورد الفحم من مصر». وأضاف: «بصراحة هو فحم رديء. إنهم يستخدمون الماء لإطفاء الفحم في آخر مرحلة من التصنيع، أما نحن فنخنقه خنقا من دون ماء».

ولا يُعرف تماما متى بدأت صناعة الفحم في يعبد في جنين، التي عرفت على مدار عشرات السنين بعاصمة الفحم، غير أن كل الذين يعملون في المفاحم الآن يقولون إنهم ولدوا ووجدوها وبدأوا العمل فيها صغارا. وقال كايد: «أجدادنا بدأوا بصناعة الفحم منذ زمن الأتراك، وحتى قبل ذلك».

وتمر صناعة الفحم بثلاثة مراحل، تبدأ من جمع الحطب وتقطيعه ومن ثم معالجة الأخشاب التي ترتب بطريقة هندسية هرمية يوضع فوقها قش وتراب وترطب بالماء قبل أن تشعل نيران في الداخل عبر رمي جمرة تستمر 20 إلى 25 يوما. وكل يوم تقريبا تتم تغذية هذا الهرم بمزيد من القش حتى يتحول الخشب إلى فحم. ويحتاج المشحرجية إلى 6 أطنان من الخشب لإنتاج طن واحد من الفحم.

وينقسم الفحم إلى أكثر من نوع الأجود هو فحم الحمضيات الذي يصنع من أشجار الجريبفروت والليمون، يليها فحم مخلوط يصنع من أشجار الأبوكادو والجوز واللوز، وهناك في السوق الفلسطينية الفحم الأرجنتيني والمصري. ويستخدم فحم الحمضيات بشكل خاص لأغراض النرجيلة، وهو أغلى ثمنا من غيره، أما الآخر فيستخدم لأغراض الشواء، وبعض الاستخدامات الأخرى.

وقال كايد: «إذا أردت فحما جيدا فعليك بزيارة يعبد للحصول على القليل منه، بعدما كان يوزع لإسرائيل ومنها لكل العالم». وأضاف: «إنهم يقولون إن السبب بيئي، لكني أتحداهم. في إسرائيل يضرون بالبيئة أكثر ألف مرة مما تضر بها المفاحم». وتابع: «للسياسة والاقتصاد والفعل الاستيطاني أفعالها».

وكانت المفاحم تشغل نحو 600 عامل بشكل مباشر يعملون في صناعة الفحم، و300 بشكل غير مباشر يعملون في نقل الأخشاب والماء وبيع المستلزمات الأخرى. وقال أبو بكر: «جلهم من دون عمل الآن». ولا يرى أبو بكر آفاقا لحل الأشكال وإعادة أحياء هذه المهنة، قائلا: «باختصار المهنة تحتضر».