عبد الوهاب عبد المحسن يحول اللوحة لمحراب في معرضه «قرب الأرض»

معزوفة بصرية تنهل من رحم الأرض وتصاوير الماء والتراب

TT

يستعير الفنان المصري عبد الوهاب عبد المحسن سطح البحيرة، ويحوله إلى معزوفة بصرية لها وقع صوفي في معرضه الجديد «قرب الأرض»، المقام حاليا بقاعة الباب، بمتحف الفن المصري الحديث بالقاهرة.

ورغم أن هذا السطح هو الأثير لدى الفنان، حيث تكرر الولع به في عدة معارض خاصة في الآونة الأخيرة، فإنه في كل معرض يبدو وكأنه يجدد استعارته لمقولة الفيلسوف اليوناني الشهير هيرقليطس «أنت لا تستطيع أن تنزل البحر مرتين لأن الماء يتجدد في كل مرة». لقد ربط هيرقليطس حركة التغير في الكون بحركة الطبيعة، وهو المعنى نفسه الذي يؤكد عليه عبد الوهاب ضمنيا في معرض حديثه عن حبه لبحيرة البرلس، مثيره الجمالي بمسقط رأسه بمحافظة كفر الشيخ، قائلا: «سأرسمها وسأظل أرسمها محاولا نقل خلودها في أعمالي لعلي أستطيع».

ولأنه يريدها بحيرة خالصة له، ولذاتها، فإنه يجردها من ناسها بمراكبهم وأدواتهم، من دبيبهم وصخبهم، ويحولها إلى قطعة نسجية تتواشج فيها علامات وموتيفات وكروكيات خطية شفيفة، يخلع عنها خواصها المظهرية ويحيلها إلى دفق عاطفي حار مشبوب ببراءة اللعب وحيوية المغامرة على سطح شاسع، يواجهه بفتنة القلم الرصاص ومشاغبات الأبيض والأسود، وينسج أشكالا وتكوينات شائقة، مسكونة بملح الأرض، وطزاجة الرؤية، وتصاوير الماء والتراب، حتى تبدو وكأنها تسابيح وابتهالات عاشق يتدثر ببردة البحيرة، ليظل قريبا من أمها «الأرض»، وهو المعنى المضمر في عنوان المعرض.

بيد أن رائحة البشر وأنفاسهم تظل عالقة في هذه الموتيفات، وتتراءى في ومضات خطية خاطفة، وأشكال ورموز تراوح ما بين الخفاء والتجلي، أحيانا ترمز لشباك الصيد، وأحيانا أخرى لكائنات البحيرة بما فيها من نباتات وأسماك وطيور، وكأنها تمثل نوعا من التعويض الضمني لغياب البشر.. وربما يفسر ذلك على المستوى النفسي أن الفنان يريد أن يقتنص فعل الرسم نفسه، من خلال الحركة الداخلية للبحيرة، في إيقاعها الفطري الطبيعي، وليس ما يلحق بها من مؤثرات خارجية. وفي تصوري أن هذا الإيقاع الفطري ينسحب على مجابهة الفنان للفضاء الصوري للبحيرة ومعالجته بصريا، حيث تتسم هذه المعالجة بالتروي والبطء، وبحساسية جمالية تنحو إلى التأمل والنسك، فخطوطه وموتيفاته رغم تنوعها وعفويتها تنأى عن العصبية والتدفق الأوتوماتيكي، إنها تحتفظ بشحنتها العاطفية في اللاوعي، وتراقب النتائج على السطح بعين طفل، يبدو وكأنه يتلمس الأشياء للوهلة الأولى.

بدافع من هذه الطاقة يرفد عبد المحس مسطحه التصويري أحيانا بإيماءات تجريدية، تعتمد على التلميح لا التصريح، وفي الوقت نفسه مسكونة بطاقة روحانية ومسحة درامية، تنحل فيها ثنائية الأبيض والأسود في شبكة متداخلة من العلاقة اللونية والخطية، يحكمها برشاقة قانون الثقل والخفة، حتى يبدو السطح وكأنه بمثابة رقرقة مائية، أو هو ترديد نغمي لحركة المد والجزر المنعكسة على صفحة البحيرة.

وينوع الفنان مغامرته على السطح برهافة شديدة، تتناهى فيها المستويات الأبعد والأقرب للتكوين، وتتقاطع بشكل يشي دوما بأنه لا حواجز بين الرسم والصورة في عيانها الخارجي المثير.. فنحس أننا أمام صورة تجريدية تتنفس على سطح له مسام، يمتلك حرية الاتساع والتكثيف. يبرز هذا على نحو لافت في عدد من اللوحات، حيث تصعد حيوية السطح، وتشف في علاقات لا مترامية، مشربة بومضات الخطوط ونثرات الرصاص، كما تتواثب في إيقاع ساج ومشمس، يتقلب ما بين الدكنة وبياض العتمة في حنايا التكوين، إلى الدرجة التي تغري - أحيانا - بإمكانية أن نمد خط الأفق في الشكل إلى خارج حدود الورقة أو القماشة.