السينما الرومانية الجديدة تخطف دبا ذهبيا

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي 8

TT

عرض خلال برليناله، أحد أكبر المهرجانات السينمائية العالمية، أكثر من 400 فيلم. واختتمت فعاليات المنافسة بين 19 فيلما رئيسيا في المهرجان بفوز فيلم المخرج الروماني كالين بيتر نيتزر «تشايلدز بوز» أو «وقفة طفل» بالجائزة الكبرى لأفضل فيلم في المهرجان «جائزة الدب الذهبي».

المهرجان اختتم دورته الثالثة والستين أمس الأحد، مع نفاد إجمالي 300 ألف تذكرة لحفلات عرض الأفلام التي استمرت عشرة أيام. وعلى خلاف الكثير من المهرجانات المنافسة، فتح برليناله حفلات العرض أمام عشاق الأفلام ولم يقصرها على العاملين في مجال السينما والإعلام. وقال رئيس المهرجان ديتر كوسليك إن 99.8 في المائة من التذاكر بيع بالفعل.

وبهذا فقد حظيت السينما الرومانية بأعلى تقدير في المهرجان، إذ حصلت على أعلى تقدير في مسابقة خلت من الإنجازات الرائعة، لكن الفيلم الروماني الفائز كان بالفعل أحد أفضل أفلام الدورة.

الجوائز المعلنة من قبل لجنة تحكيم ترأسها الصيني وونغ كار واي وشارك فيها المخرجة الدنماركية سوزان باير والممثل والمخرج الأميركي تيم روبنز والمخرج الألماني أندرياس درسن، منحت في الواقع حضورا قويا لسينما وسط وشرق أوروبا.

الجائزة الثانية من حيث أهميتها منحت إلى الفيلم البوسني «فصل في حياة جامع حديد» لدنيش تانوفيتش (وهي أعلى جائزة نالتها عن أي من أفلامها السابقة التي بدأت قبل نحو عشر سنوات بفيلم «أرض لا أحد»)، في حين نال بطل ذلك الفيلم نظيف موجيتش جائزة أفضل ممثل. وانتقلت الجوائز إلى آسيا فحظي مدير التصوير الكازاخستاني عزيز زامباكييف بجائزة أفضل «إسهام فني» عن تصويره «دروس تجانس»، كما نال الإيراني جعفر باناهي جائزة أفضل سيناريو عن «ستائر مسدلة».

الجوائز الأخرى توزعت ما بين القارة الأميركية وباقي أوروبا: أفضل مخرج بحسب اللجنة هو ديفيد غوردن غرين عن فيلمه «برينس أفالاتشي»، وأفضل ممثلة هي التشيلية بولينا غارسيا عن «غلوريا».

غرين هو المفاجأة التي لم يكن أحد يتوقعها. فيلمه «برينس أفلاتشي» يدور حول رجلين يعملان في وضع العلامات فوق الطرق الجبلية. عملهما يجعلهما وحيدين وسط البرية. الأكبر سنا يأمل في الزواج من شقيقة الثاني، لولا أن رسالة تصله تعلن فيها الفتاة عن أنها لم تعد ترغب فيه لأنه يغيب عنها كثيرا. رغم الخط العاطفي، هذا فيلم كوميدي أساسا والمخرج يمنحه معالجة فنية مناسبة لا تخرق السقف لكنها مقبولة. بوجود مخرجين كثيرين في صف التحكيم يتساءل المرء عما يكون الدافع الفني الحقيقي لتفضيل عمله على مخرجين آخرين قدموا أعمالا أهم. لكن على ذلك منح الجائزة لغرين ليس نهاية العالم كون الفيلم ليس رديئا.

البعض كان يتوقع خروج فيلم «نسائي» بالجائزة الأولى، وكانت المنافسة شديدة بين فيلمين من منوال متشابه: «غلوريا» التشيلي - الإسباني الإنتاج، و«وقفة طفل» الروماني. ولم يكن ذلك التوقع صعبا على الإطلاق لسببين: المواضيع والقضايا النسائية كانت غالبة على مسابقة هذه الدورة وحقيقة أن أربعة من سبعة محكمين هن نساء، ولو أن ذلك لا يعدو أكثر من تكهن مشاكس على أساس أن انتقاء لجنة التحكيم تبع اختيار معظم الأفلام المشاركة وليس العكس.

برلين هذا العام برهن على أنه محطة جامعة لسينمات أوروبا والعالم. ليس أن المهرجانات الدولية المنافسة الأخرى تخلو من هذا التوزيع، لكن التوازن هنا بين سينمات المناطق الجغرافية والسياسية أكثر وضوحا منه في أي مكان آخر. وهذه السنة تحديدا برزت قيمة ذلك، إذ ذهب الدب الذهبي إلى فيلم ربما كان من الصعب عليه اختراق نجاح كهذا لو عرض في «كان» أو في «فينسيا».

ويأتي نجاح «وقفة طفل» الذي تحدثنا عنه هنا سابقا كفيلم يدور حول أم تحاول تجنيب ابنها الشاب دخول السجن بعدما دهس طفلا بسيارته المسرعة، نجاحا لتيار جديد في السينما الرومانية، هذه التي بقيت مهملة طوال الفترة الشيوعية السابقة إلا من بعض الإنتاجات القليلة والمتباعدة. فمنذ عقد من الزمن أعربت السينما الرومانية عن وجود لافت عندما فاز فيلم قصير لها بعنوان «Traffic» بالذهبية كأفضل فيلم قصير في مهرجان «كان» السينمائي سنة 2004. في العام التالي ذهل رواد المهرجان نفسه بفيلم رائع بعنوان «موت السيد لازارسكو» لكرستي بيويو الذي حاز على جائزة قسم «نظرة خاصة». بعد ذلك تعددت الأفلام والجوائز، فخطف «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع، ويومان» لكرستيان مونجو السعفة الذهبية في «كان» (2007)، وحصد «الحلم بكاليفورنيا» لكرستيان ممسكو جائزة «نظرة خاصة» في العام ذاته. وفي عام 2009 نال الفيلم الجيد «بوليس، صفة» لكميليو بورمبيو الجائزة ذاتها من المهرجان نفسه.

ما يختلف فيه «وقفة طفل» عن معظم أفلام السينما الرومانية الحديثة هو أنه يجد في نقد النظام السابق مادة مستهلكة مبتعدا عنها صوب موضوع قد تقع أحداثه في أي بلد لم يمر بتلك التجربة. كذلك في حين أن الأفلام الرومانية السابقة حفرت جذورا عميقة في أساليب تعبير واقعية وطبيعية، مارس المخرج الشاب كالين بيتر نتزر قدرا أقل من الواقعية مائلا إلى سينما ذات خصال فنية سردية درامية عامة.

من اللافت أيضا أنه الفيلم الذي منحته لجنة «اتحاد النقاد الدوليين» (بعضوية ناقد «الشرق الأوسط») واحدة من ثلاث جوائز وزعتها في اليوم الأسبق لإعلان الجوائز الرسمية. «وقفة طفل» نال جائزة أفضل فيلم معروض في المسابقة، و«إن شاء الله» نال جائزة أفضل فيلم عرض في البانوراما، وهو كندي من إخراج أنيه باربو لافاييت، بينما ذهبت جائزة أفضل فيلم في قسم «فوروم» (مكون عادة من أعمال لمخرجين جدد)، وهو برازيلي الإنتاج أخرجه سيزر أوتيثيثا فيلو.

فيلم البوسني دنيش تانوفيتش «فصل في حياة جامع حديد» يمضي في خطى معاكسة. أفلام تانوفيتش السابقة ومنها «أرض لا أحد» و«سيرك كولومبوس» حفلت بالدراما (ولو بأسلوب عمل واقعي)، لكن فيلمه الجديد هذا يمضي أعمق من قبل في مسار سينما طبيعية. أسلوب الكاميرا المحمولة التي تسجل وقائع الحياة يسيطر على المخرج الجيد، متابعا حكاية ذلك الفقير الذي يعيش وزوجته في حجرة مع طفليهما ويعمل في جمع ألواح الحديد وأشكال الصفائح من المزابل والسيارات المعطلة لبيعها مع بعض جيرانه. لكن هذا القدر الضئيل من المال لا يكفيه لدفع فاتورة الكهرباء في وقتها، لذلك عندما تقع زوجته مريضة بعدما مات جنينها في بطنها، يجد نفسه غير قادر على معالجتها في أحد مستشفيات المدينة القريبة. سعيه لنقلها مرتين إلى ذلك المستشفى لعله يحظى برعاية حقة هو فاعل عاطفي لا عيب فيه كونه صادقا. في النهاية يجد الزوج حلا في انتحال زوجته شخصية قريبة لها تملك بطاقة ضمان صحي.

* أفلام برلين: أسئلة حول فيلم لم يتسابق

* لو لم يشترك فيلم هالة لطفي «الخروج للنهار» في مسابقات عربية (مهرجاني «أبوظبي» و«وهران») هل كان سيستطيع دخول مسابقة دورة برلين الحالية؟

من دون أن نعرف ظروف العمل يبدو الجواب قاصرا على التخمين. هل عرضت المخرجة هالة لطفي الفيلم على مهرجان برلين ضمن المسابقة فحوله إلى قسمه الآخر «فورام»، معتبرا إياه غير مناسب للمسابقة، أم أن حقيقة أن المخرجة اختارت مهرجان أبوظبي السينمائي كأول محطة لها هو ما حرمها من دخول المسابقة الرسمية لبرلين؟

«الخروج للنهار» يلتقي وأكثر من فيلم عرض في المسابقة هذه السنة، إنه موضوع من بطولة نسائية، كحال «غلوريا» و«ليلى فوري» و«الراهبة» و«في طريقي» وسواها، وهو موضوع عن الفقر الشديد في حواشي المجتمع المصري كما حال «فصل في حياة جامع حديد» في حواشي المجتمع البوسني.لكن «الخروج للنهار» ليس عن الفقر وحده. بطلتاه (دنيا ماهر في دور سعاد الشابة وسلمى النجار في دور أمها) محملتان بعبء آخر، الأب في العائلة (أحمد لطفي) مريض ومقعد. لا بد أن نوبة قلبية أصابته بشلل دائم جعلته لا يقوى على الحركة وبحاجة إلى عناية خاصة في كل شيء. يبدأ الفيلم باستيقاظ الأم باكرا. كلمة الفيلم الأولى «سعاد..».، فالأم تنادي ابنتها لكي تستيقظ وتبدأ حياة يوم متعب آخر.

لـ49 دقيقة تحتفظ المخرجة بحقها التزام البيت مع هذه الأسرة الصغيرة. تتابع (بتصوير طبيعي جدا) نمو الحياة في الصباح، وهي لا تحتاج إلى نمو كبير، فأعمالها اليوم هي ذات أعمالها بالأمس. التنظيف والغسيل وتأمل حياة تذوي من دون تغيير. بعد تلك الدقائق تخرج الكاميرا إلى الشارع لأول مرة. سعاد قررت زيارة صديقتها إذا لم تستطع الالتقاء بصديق لم ترَه منذ خمسة أشهر. تتصل به وتدرك أنه لا يود استمرار العلاقة. صديقتها مشغولة. أمها تتصل بها وتخبرها أنها نقلت الأب إلى المستشفى الذي تعمل فيه بعدما سقط فاقدا الوعي. ها هي تجلس بالقرب من أمها التي عادت من عملها في المستشفي. تقول لها: «هوا حندفن بابا فين؟»، ثم يأتي السؤال الأفدح وقعا: «واحنا المدافن بتاعتنا فين؟».

من النظر إلى الصورة التي توفرها هذه المخرجة المبدعة، الجواب مسجل وغير مسموع: مثل هذه الحياة هي المدفن الوحيد!