«المقصورة الحمراء» في الأقصر.. درة المعابد الفرعونية

على مدى 3500 عام عانت تحديات الأزمان وتعديات الإنسان

TT

تمثل هذه المقصورة رمزا لدسائس ومؤامرات الحكم في حقبة مهمة من تاريخ مصر القديم، ويعرف دارسو الحضارة الفرعونية كيف يتشممون روائح هذه المؤامرات، وهم يطالعون النقوش المحفورة على جدران هذه المقصورة القابعة في قلب معبد الكرنك - درة المعابد الفرعونية بمدينة الأقصر في صعيد مصر.

وعلى مدى أكثر من 3500 عام، ظلت المقصورة الحمراء تعاني تحديات الزمن وتعديات الإنسان، إلى أن قام فريق من الخبراء المصريين والأجانب بصيانتها، لتبدو في حلة جديدة، وتصبح متاحة أمام الحركة السياحية الداخلية والخارجية في نهاية شهر فبراير (شباط) الحالي.

ولم تكن عمليات التطوير بمثابة إعادة إحياء لمبنى ظل يواجه التعديات فحسب، بل إحياء لتاريخ «حتشبسوت» التي تنسب إليها المقصورة، وكذلك إحياء لتاريخها كملكة مصرية لها بصماتها المتميزة في الحضارة الفرعونية، بعدما أصابه التشويه، ومحاولة طمسه وإزالته، بعدما انتزعت الملك من ابن زوجها «تحتمس الثالث»، بعد وفاة أبيه، وكان صغيرا، فقامت بالوصاية عليه، ونصبت نفسها ملكة على مصر.

إلا أنه وبعد وفاتها، وتوليه مقاليد الأمور، قام «تحتمس الثالث» بالانتقام منها، بتشويه تاريخها، فحاول بقدر ما يستطيع من قوة إزالة آثارها على المقابر والمعابد، من نقوش ورسومات.

ومن بين هذه المواقع، المقصورة الحمراء، التي عمل على إزالة ما بها من رسومات ونقوش، وهي المقصورة التي حظيت بالنصيب الوافر من عملية الإزالة، عكس ما عجز عنه من تدمير لمسلة «حتشبسوت»، الواقعة بالقرب من المقصورة، في نفس معابد الكرنك.

صاحبة المقصورة، تعتبر أشهر ملكة مصرية، ظلت لنحو 3500 عام مجهولة للكثير من الأثريين والعاشقين للآثار المصرية، إلى أن فك العلم الحديث غموض موميائها، حيث لم يكن يدري فريق الأثريين، أن المومياء التي ظلت مجهولة لهم ثلاثة أعوام، هي لأشهر الملكات المصريات.

ويصف الدكتور محمد إبراهيم، وزير الدولة لشؤون الآثار، المقصورة بأنها «عبارة عن معبد، مساحته طولية، مكونة من طابق واحد فقط، كان يستخدم لأغراض تعبدية حسب المصريين القدماء، متعدد الحجرات من الداخل، بعضه غير مسقوف، يحمل الكثير من النقوش والرسوم، التي تصور الملكة (حتشبسوت) في تعبدها وفي رحلاتها الخارجية المختلفة».

ويقول الوزير محمد إبراهيم: «إن المقصورة ظلت على حالتها قبل 3500 عام. عندما أمرت بتشييدها، حتى جاء (تحتمس الثالث) ليتولى الحكم من بعدها، واعتقادا منه أنها اغتصبت منه الحكم بعد وفاة والده، حينما كان صغيرا، قام بتشويه النقوش والرسومات التي تحمل اسم (حتشبسوت)، في محاولة منه لمحو تاريخها وآثارها».

إلا أنه لم يتمكن من طمس وتشويه جل آثارها، حيث بقيت معابد وتماثيل ومسلات أخرى تحمل اسمها. واستمر حال المقصورة على ذلك، إلى أن جرى مشروع صيانتها، لمعالجة ما عانته من حملات تشويه وتعديات وتحديات الزمن.

ويقول الآثاري منصور بريك، مدير آثار الأقصر، إن «فريق الترميم المصري - الفرنسي عمل على إحياء تاريخ ورسومات (حتشبسوت) على المقصورة، والاستعانة في ذلك بأحجار مطابقة للتي كانت مصممة بها، وعثروا عليها في أسوان، وهي نفس الأحجار التي كانت تبنى منها المعابد، حيث كان يجلبها الفراعنة من هذه المنطقة، لتشييد مدينة طيبة عاصمتهم، والمعروفة بالأقصر اليوم».

ويتابع بريك: «إنه مع صيانة المقصورة، أصبحت في أبهى حلة لها، تعافت مبانيها، وعاد التاريخ إلى جدرانها، حاملا معه لحظة من لحظات المؤامرات بين الملوك الفراعنة، ومجسدا في الوقت نفسه لحقبة من حقب الصراع على السلطة، فضلا عما مثله من قوة لحكم النساء، وجرأتهن في انتزاع الملك، ومقدرتهن على الحكم».

وفي ذلك، تمت الاستعانة بنقوش معبد الدير البحري بالأقصر للملكة الفرعونية، التي تصف فيها «حتشبسوت» ورحلاتها، فضلا عن الاقتباس من نقوش المسلتين الكبيرتين المصنوعتين من الجرانيت، المجاورتين للمقصورة في معابد الكرنك، وتزن الواحدة منها فوق 1000 طن، أمرت بصناعتها لتكون أكبر مسلة في تاريخ البشرية.

ولعل هذا يدفعنا إلى التوقف عند مسيرة هذه الملكة التي اشتهرت بين ملكات أخريات، أبرزهن «نفرتيتي، نفرتاري، كليوباترا»، وغيرهن، إلا أنه رغم حكم ست ملكات لمصر، فإن «حتشبسوت» كانت تتميز عنهن جميعا بأنها كانت الأقوى والأشهر، خاصة أنها حكمت مصر في فترة من أزهى عصورها التاريخية، حيث كانت خامس ملوك الأسرة الثامنة عشرة التي تعتبر العصر الذهبي لمصر القديمة، وتضم أعظم وأشهر ملوكها.

جاء سيناريو توليها العرش، بعد وفاة الملك «تحتمس الأول»، الذي تولى من بعده ابنه الملك «تحتمس الثاني»، واضطر لتدعيم حقه في العرش إلى أن يتزوج من أخته «حتشبسوت»، ابنة الزوجة الرئيسة للعاهل الراحل «تحتمس الأول».

إلا أن «حتشبسوت» لم تنجب سوى طفلة أنثى هي «نفرو رع»، وبعد وفاة زوجها وأخيها «تحتمس الثاني»، خلف ولده «تحتمس الثالث»، من زوجة أخرى، وكان صغيرا، فجعلت «حتشبسوت» من نفسها وصية عليه، وانتزعت الملك منه، وأعلنت نفسها «ملكا»، واتخذت الألقاب والهيئة الذكورية، حتى تتشبه بالرجال، ولا يطمعون فيها أو في ملكها.

ويقال إنها واجهت مشاكل كثيرة في بداية حكمها بسبب حكمها من وراء الستار من دون شكل رسمي، ويقول بعض المؤرخين إنها قتلت زوجها وهو أخوها الملك «تحتمس الثاني» للاستيلاء على الحكم.

وعلى الجانب الآخر، واجهت مشاكل مع الشعب، حيث كان يرى أغلب الناس أنها امرأة ولا تستطيع حكم البلاد، إذ كان الملك طبقا للعرف للرجال ممثلا للملك «حورس» الحاكم على الأرض.

لذلك، كانت دائما تلبس وتتزين بملابس الرجال، وأشاعت أنها ابنة «آمون» لإقناع الشعب بأنها تستطيع الحكم، ونشطت في نفس الوقت حركة التجارة مع جيران مصر، حيث كانت التجارة في حالة سيئة، خصوصا في عصر زوجها الملك «تحتمس الثاني».

وكانت تصور رحلاتها الخارجية عبر الرسومات، ومنها ما جسدته في المقصورة الحمراء، إذ تصور الرسومات الملكة في بعثاتها التجارية على متن سفن كبيرة تقوم بالملاحة في البحر الأحمر، محملة بالهدايا والبضائع المصرية مثل البردي والكتان إلى بلاد «بونت»، واستقبال ملك «بونت» لها استقبالا حافلا.

ويومها، عادت الملكة محملة بكميات كبيرة من الحيوانات المفترسة والأخشاب والبخور والأبنوس والعاج والجلود والأحجار الكريمة، وصورت الملكة «حتشبسوت» أخبار تلك البعثة على جدران معبد الدير البحري على الضفة الغربية من النيل عند الأقصر، ولا تزال الألوان التي تزين هذا المعبد زاهرة ومحتفظة برونقها وجمالها.

وحكمت «حتشبسوت» مصر لنحو 22 عاما، خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وبعد وفاتها تم تحنيط موميائها، ووضعها في المقبرة رقم 60 بمنطقة البر الغربي في الأقصر، حتى اكتشفها الإنجليزي «كارتر» في عام 1903. وظلت المومياء على هذه الحالة مجهولة النسب حتى عام 1989 عندما جاء عالم «الأنثروبولوجي» دونالدراين، وأجرى علي المومياء السابقة بعض الفحوصات، لم يكن يدور بخلده آنذاك أنها مومياء معلومة النسب، إلا أنه لم يصل إلى نتائج مؤكدة، حتى تم نقلها إلى المتحف المصري في عام 2006 لفحصها بجهازي الأشعة والحمض النووي، وإجراء الاختبارات المعملية عليها ومضاهاة نتائجها مع ما تم التوصل إليه من نتائج أجريت على أفراد أسرتها ومومياء من عصرها.

وبمضاهاة الأمعاء التي تم العثور عليها داخل أحد الصناديق في مقبرة بالوادي الغربي في الأقصر، وجد العلماء ضرسها وكبدها كاملين، وتبين عدم وجودهما في المومياء المجهولة «حتشبسوت»، وبنقل الضرس إلى موضع المومياء، تبين أنه يوضع بشكل طبيعي في مكانه.

ومع تقصي البحث، اكتشف الخبراء أن الصندوق السابق يحمل آخر حرفين من اسم مرضعة الملكة الشهيرة، وتدعى «ستر. إن»، وظهر أن المومياء المجهولة «حتشبسوت»، كانت تعانى ضعفا في أسنانها، مما أدى إلى سقوط إحداها، فوضعه القدماء أثناء عملية التحنيط مع أمعائها في صندوق.

وتبين لفريق البحث الذي تنوع بين آثاريين وخبراء أشعة وأطباء أسنان، أن كل هذه الشواهد أكدت صحة الافتراضات التي توصل إليها الخبراء من الأثريين والمختصين.

وأوضحت الدراسات أن الملك «تحتمس الثالث»، ابن زوجها، بريء من قتل «حتشبسوت» بعد ثبوت موتها بمرض السرطان والسكري، وكذلك تبين موت الملك «تحتمس الثالث» بمرض صدري، وأن «تحتمس الثاني» مات بالقلب في سن 40 عاما، وهم كلهم من أفراد أسرتها.

وبناء على الدراسات السابقة، فإن المومياء التي اكتشفها «كارتر» هي للملكة الشهيرة، وأنها ظلت مجهولة طوال هذه المدة، وبعد مقارنة فحصها مع مومياء زوجها «تحتمس الثاني»، ومومياء والدها «تحتمس الأول»، ومومياء ابن زوجها «تحتمس الثالث»، وكذلك بإحدى مومياوات الأسرة الثامنة عشرة التي عاشت فيها الملكة، وهي «أحمس نفرتاري»، كلها أبرزت صحة علاقة النسب مع المومياء التي كانت مجهولة من قبل للآثاريين، وأصبحت معلومة لهم تاليا، واتضح أنها للملكة «حتشبسوت».

ويضاف إلى ما سبق، فإن الفحص أبرز أن الملكة المصرية كانت بدينة، وتوفيت عن عمر يناهز 50 عاما، وأن سبب وفاتها قد يكون تعرضها للكثير من الأمراض، ومنها مرض خبيث، انتشر ببطنها نتيجة لمضاعفات مرض السكري الذي كانت تعانيه.