سفرات نهرية ومطاعم عائمة تعيد الحياة إلى «شط العرب»

البصريون يغازلون الليل بإحياء أمسيات عائلية

كورنيش شط العرب («الشرق الأوسط»)
TT

يتغزل أهالي البصرة، أو «البصراويون» كما يطلق عليهم نسبة إلى انتمائهم للمدينة، في بصرتهم بالأغاني والقصائد، ولعل أشهرها «حلوة البصرة حلوة.. بيها النخل عالي بالبساتين»، وغالبا ما يغنون خلال سهراتهم «الليلة حلوة.. حلوة وجميلة»، فالبصرة هي مدينة النخيل والتمور والأنهار، حتى إن المستشرقين أطلقوا عليها تسمية «بندقية الشرق» أو «فينيسيا الشرق» حيث كان يجري فيها ما يقرب من 120 نهرا أشهرها اليوم نهر العشار ونهر الخندق ونهر الخورة ونهر مهيجران ونهر حمدان ونهر باب سليمان ونهر بويب، الذي تغزل فيه الشاعر بدر شاكر السياب لوقوع بيت عائلته قريبا من هذا النهر (في قضاء أبو الخصيب جنوب البصرة).

وبالقرب من تمثال مجدد الشعر العربي (السياب) وعلى ضفاف شط العرب عاد البصريون من جديد لمغازلة الحياة بعد سنوات من الصراع مع الجماعات المسلحة التي حاولت السيطرة على المدينة. سفرات نهرية ومطاعم عائمة جعلت من ظلام الليل في شط العرب نهارا، وعائلات أرادت الخروج من متاعب الحياة بالتنزه واسترداد ذكرى أجدادهم البحارة عندما كانوا يتناغمون مع الليل بالسمر وعزف «موسيقى الهيوا» التي اشتهرت بها المدينة الساحلية الوحيدة في العراق.

أحمد إبراهيم (45 عاما)، مدرس، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «البصرة مدينة الحياة الليلية قبعت لفترة طويلة تحت سيطرة الجماعات المتشددة، إلا أنها عادت للحياة من جديدة بعد عام 2008». وأضاف «عودة الحياة لم تشمل ممارسة الأمسيات العائلية حتى ساعات متأخرة من الليل بسبب سيطرة الخوف على أغلب أرباب الأسر، إلا أن العام الماضي ومطلع العام الحالي شهد اختلافا شاسعا، وعدنا من جديد إلى شط العرب الذي كان يحتضننا في السابق». وتابع أن «السهر قرب شط العرب استرد لنا بعضا من ذكريات الآباء والأجداد، لأن كثير من أهل البصرة في الأصل بحارة، وأصبحنا نقضي ساعات طويلة من الليل قرب الماء خاصة أيام العطل».

كورنيش شط العرب يمتد على مسافة 3 كم على ضفاف الشط المواجه لمركز مدينة البصرة، إذ يبدأ من جزيرة الداكير، وحتى مجمع القصور الرئاسية، أما الشط فهو ناتج من التقاء نهري دجلة والفرات في مدينة القرنة شمال البصرة، ويصب في الخليج العربي عند منطقة الفاو. وتزين كورنيش شط العرب خاصة في الليل إنارة قوية ملونة ممتدة على طوله بامتداد المطاعم والكازينوهات العائمة التي زاد انتشارها خلال العامين الماضيين.

وتقول ليليان ناصر (30 عاما)، وهي تجلس مع عائلتها في أحد المطاعم العائمة، لـ«الشرق الأوسط»: «كانت المرأة البصرية تخاف أن تخرج في النهار خلال الأعوام الماضية، لكن الآن الأمر اختلف، فأحيانا نقيم حفلات أعياد الميلاد في هذه المطاعم ونبقى حتى منتصف الليل». وأضافت «البصرة في النهار أصبحت لا تطاق بفضل الازدحامات وحركة الإعمار وإنشاء الجسور، لذا نجد في الليل الراحة خاصة بقرب شط العرب الذي كان يداعبنا بأمواجه عندما كنا صغارا».

إلى ذلك، يقول وائل عريبي، مدير أحد المطاعم العائمة على ضفاف شط العرب، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحياة عادت مجددا إلى شط العرب بعد سنوات من الجمود، حيث نستقبل خاصة أيام العطل ما يقارب 60 إلى 70 عائلة، ويصل العدد إلى 300 شخص، أغلبهم من أبناء البصرة، وبعض الضيوف من المحافظات الأخرى الذين يريدون التمتع بأجواء شط العرب». وأضاف «المطاعم على شط العرب تقدم أكلات عدة، لكن سيد المكان هو السمك خاصة (السمك المسكوف) والروبيان لأن البصرة تمتاز به، ويكون كل ذلك على أنغام الموسيقى».

الحياة الليلية قرب شط العرب لا تقتصر على الكازينوهات والمطاعم العائمة؛ بل تتعداها إلى قاعات للأفراح وأخرى للاجتماعات، بالإضافة إلى الزوارق النهرية «البلم العشاري»، وهي مصنوعة من الخشب، وكانت تستخدم قديما في نقل البضائع والركاب في شط العرب وخليج العشار لتنقل اليوم أبناء المدينة في سفرات نهرية. ويقول جاسم الكطراني، صاحب «بلم عشاري» لـ«الشرق الأوسط»: «سابقا لم نكن نعمل في الليل، لكن مع تزايد وتيرة الاستقرار الأمني وتوجه العوائل لشط العرب في المساء استأنفنا العمل». وتابع «نخرج في رحلات غالبا تكون قصيرة بسعر بين 10 آلاف و15 ألف دينار عراقي (8 دولارات إلى 13 دولارا أميركيا)، وغالبا ما تكون على أنغام الأغنية التراثية الشهيرة (يا بو بلم عشاري)». كورنيش البصرة امتاز ومنذ أربعينات القرن الماضي بكثرة المقاهي الشعبية التي كانت تعج بعدد كبير من أبناء المدينة خاصة مثقفيها وشعراءها، وعلى رأسهم الشاعران بدر شاكر السياب ومحمود البريكان، حيث كانا يلتقيان في مقهى البدر الشهير على واجهة شط العرب، لكن بعد عام 2003 بدأت تختفي تلك المقاهي لتبرز مطالبات بإعادتها من جديد للحياة.

ويقول كامل البدر، ابن مؤسس مقهى البدر الشهير الحاج مهدي سليم كاظم البدر، لـ«الشرق الأوسط»: «المقهى منذ تأسيسه في عام 1943 اشتهر في البصرة بأنه ملتقى لعدد كبير من أبناء المدينة وشعرائها ومثقفيها، أمثال بدر شاكر السياب، ومحمود البريكان، وزكي الجابر، ومحمد خضير، ومحمد راضي جعفر، ومحمد جواد جلال، ومحمود عبد الوهاب، وجبار صبري العطية، وإحسان السامرائي.. واستمر كذلك حتى بعد الحرب العراقية الإيرانية رغم تدمير المقهى السابق الواقع على الضفة الأخرى من شط العرب، منطقة التنومة، لينشأ مقهى جديد ويستمر في استقطاب رموز الفن والصحافة والسياسة حتى قيل عنه إنه واجهة ومعلم بصري يجب أن يزوره كل قادم إلى المدينة». وتابع «لكن بعد عام 2003 بدأ رواد المقهى في الانحسار، وتم الاستيلاء عليه من قبل أحد الأشخاص ليحوله إلى قاعة للأعراس فيطمس بذلك تاريخ مدينة وذكريات أجيال متعاقبة». ودعا البدر إلى «تبني ثقافة أحياء المقاهي التراثية في المدينة من خلال استرداد الحق، وعودة مقهى البدر من جديد حتى يتمكن الجيل الحالي من محاكاة تراث أجداده وعودة أهل البصرة للسمر وشرب الشاي قرب شط العرب الذي يعشقونه».

يذكر أن شط العرب كان يحتوي على ثلاثة مقاه شهيرة، أحدها البدر الذي تحول إلى قاعة أعراس، ومقهى عباس الذي أزيل ليحل مكانه نصب الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، ومقهى الشيخلي الذي هدم ولم تتم إعادة بنائه حتى اللحظة.