أنامل الشباب تعيد «رواشين جدة» إلى الواجهة

تحولت من سمة للمباني الحجازية إلى منتج حرفي يقتنيه السياح

منازل رواشين جدة القديمة يعتبرها خبراء الهندسة المعمارية من أهم الفنون المعمارية
TT

أنهى خمسة عشر شابا من أهالي منطقة مكة المكرمة دورة متخصصة في فنون صناعة «الرواشين الحجازية»، معيدين بذلك حقبة من زمن فن البناء المتخصص الذي اشتهر به سكان المنطقة قديما، والتي بدأت ملامحه في الانقراض مع التطور العمراني المتنامي محليا.

ويعتبر خبراء الهندسة المعمارية الرواشين من أهم الفنون المعمارية، في منازل جدة القديمة، وأحد الحلول العبقرية التي تنسجم مع البيئة المحلية بكل مكوناتها، وأضفت طابعا جماليا على قلب المدينة، أو بالأحرى جدة القديمة، المرشحة للولوج إلى قائمة التراث العالمي.

وأوضح محمد بن عبد الله العمري المدير التنفيذي للهيئة العامة للسياحة والآثار أن الهدف من تنظيم الدورة وغيرها من الدورات المماثلة هو مساعدة الشباب الذين يرغبون في العمل في هذه الحرفة بتطوير مهاراتهم وقدراتهم من خلال تنفيذ منتج سياحي متكامل واستغلال خامات البيئة.

ولفت العمري إلى مشروع الحفاظ على الهوية الفكرية والثقافية لجدة، مطالبا جميع الشباب باقتناص الفرص التجارية والاقتصادية في هذا المجال والعمل على الاستثمار الحرفي في سوق العمل مستقبلا، خصوصا أنه يستطيع أن يعمل في هذه الحرفة من جهتين، الأولى لصناعة الرواشين الحقيقية كونها أصبحت تأخذ اهتمام السكان عند إنشاء مبانيهم، والثانية لتحويلها إلى منتج حرفي تذكاري يباع في الأسواق والمطارات ويقتنيها الزوار والسياح.

وأبرز العمري أهمية الرواشين بالنسبة لتراث المملكة بشكل عام، وأهالي منطقة مكة المكرمة بشكل خاص، لأنها كانت وما زالت تمثل أصالة الزمان والمكان للطرز المعمارية التي يمتزج فيها خليط من الثقافات العربية والعثمانية والفارسية، بسبب موقعها الحيوي كبوابة للحرمين الشريفين المكي والنبوي، مضيفا أن صناعة الرواشين تعتبر من أقدم المهن، وهي من المهن الحرفية التقليدية القديمة التي توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل، وهي التي تبرز ثقافة وحضارة الشعوب ومخزونها التراثي.

وأشار إلى أن صناعة الرواشين تشهد نهضة وزخما شديدا في ظل عودة دائرة الاهتمام في بعض المدن في المملكة إلى هذا الطراز المعماري الفريد على الرغم من انحسار صناعة الرواشين لتأثير الحياة المعاصرة التي أغنت عن الحاجة إلى استخدامها.

وأكد محمد العمري أن الهيئة تساهم بفعالية في دعم الخريجين المتميزين للحصول على فرص عمل في القطاع الخاص الذي يستوعب آلاف الشباب المتحمسين وذوي المهنة الحرفية بشرط أن تتوفر لديهم الشروط والكفاءة والرغبة اللازمة.

من جهته، أوضح المهندس مصطفى الصباغ مدرب البرنامج أن الطلاب تدربوا خلال 3 أسابيع على جميع أنواع الأخشاب المستخدمة في هذه الصناعة وتعرفوا على مميزات كل نوع وأفضل الطرق المستخدمة في هذه الصناعة وكيفية المحافظة على الأخشاب ومعالجتها وطلائها.

وأضاف أن هذا البرنامج يعتبر التعاون الثالث بين المعهد الصناعي الثانوي بجدة والهيئة العامة للسياحة والآثار، حيث أقيم في فترة سابقة برنامج عن صناعة القوارب الخشبية وبرنامج آخر للرواشين الحجازية، مشيدا بما قامت به الهيئة العامة للسياحة والآثار وبمبادرتها بدعم مثل هذه البرامج المميزة بالتعاون مع المعهد الصناعي الثانوي بجدة، وذلك إحياء للتراث القديم للمناطق الساحلية.

اختتمت الهيئة العامة للسياحة والآثار مؤخرا في جدة برنامجها التدريبي (الرواشين الحجازية)، وذلك ضمن مجال التأهيل للمشروع الوطني لتنمية الموارد البشرية السياحية «تكامل» لتدريب عدد من فئة الشباب من أهالي منطقة مكة المكرمة في صناعة الرواشين، الذي استمر لمدة ثلاثة أسابيع في المعهد الثانوي الصناعي بجدة.

وبوجه عام، فإن الرواشين هي وحدات تصميمية جمالية، تبرز عن سمت جدران المباني، وتطل على الشارع أو على الفناء الأوسط، وهي تستند إلى دعائم ناتئة (كوابل) من الخشب، وتظهر فيها مهارات النجارين من خلال المشغولات الخشبية للقطاعات المتشابكة والطنف والأفاريز المائلة ومصارع النوافذ. وغالبا ما تكون مزودة بشيش يتألف من ستائر شبكية صغيرة.

ولا تقتصر وظائف الرواشين على إضفاء الطابع الجمالي على واجهة المنزل وتحقيق الخصوصية لأهله وكفى، بل هي ممتدة إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث إنها تؤدي الكثير من الوظائف على الصعيد البيئي، وتنسجم بشكل كبير مع معطيات المناخ وتقلبات الطقس.

عرفت صناعة الرواشين في جدة، بحسب المصادر التاريخية، في أواخر القرن السادس الهجري، وميزت عمارة المدينة منذ منتصف القرن السابع الهجري. وتعرف الرواشين في مصر والشام بالمشربيات، ومفردها مشربية، وهي الغرفة العالية أو المكان الذي يشرب منه حيث توضع أواني الشرب الفخارية «القلل أو البرادية» لتبريد المياه بداخلها، بينما في العراق ترادفها الشناشيل ومفردها شنشول. وتتميز رواشين جدة عن مرادفاتها في العالم الإسلامي بأنها الأكثر ارتفاعا وأكبر حجما، وهي تركب في صفوف متراصة، وكثيرا ما تمتد وتتواصل من الطابق الأرضي وحتى الأدوار العليا أو تمتد أفقيا حول الأدوار العليا فتكاد تغطي واجهة المنزل بأكملها.

والرواشين بوجه عام هي وحدات تصميمية جمالية تبرز عن سمت جدران المباني وتطل على الشارع أو على الفناء الأوسط، وتستند على دعائم ناتئة (كوابل) من الخشب، وتظهر فيها مهارات النجارين من خلال المشغولات الخشبية للقطاعات المتشابكة والطنف والأفاريز المائلة ومصارع النوافذ، وغالبا ما تكون مزودة بشيش يتألف من ستائر شبكية صغيرة.

رئيس بلدية جدة التاريخية المهندس سامي نوار يصنف رواشين جدة الكثيرة والمتباينة جماليا ضمن ستة أنماط أساسية.. النمط الأول: وهو عبارة عن بروز بسيط عن الجدار على هيئة صندوق يمتد عادة من الطابق العلوي للمنزل حتى قاعدته في الدور الأرضي، وهذا الطراز هو الأبسط بين أنواع الرواشين. والنمط الثاني يتميز بأنه أكثر تنميقا وإتقانا وعادة ما يتم وضعه فوق مدخل المنزل وتظهر فيه المقرنصات المتدلية والدعائم والكوابل المزخرفة وقد تختلف البروز الأمامية والتفاصيل الزخرفية من طابق لآخر في المنزل ذاته.

ويعد النمط الثالث وحدات منفردة توزع ضمن الإطار العام للشكل المميز لواجهة المنزل وتتنوع فيها التقسيمات والفتحات والستائر الشبكية، ويتميز هذا الطراز بوجود مظلة تعلو قمته.. فيما يعتبر النمط الرابع منها أطرا من القواطع التي تأخذ شكل المستطيل، وثمة فتحات صغيرة للنوافذ، وعادة ما تكون قاعدته مسطحة أما قمته فتعلوها مظلة أو تاج. والنمط الخامس من الروعة الزخرفية وجمال المنمنمات بحيث لا ينافسه إلا النمط السادس، ويتميز بتاج مجوف مثبت في أعلى مظلة مسطحة الشكل وقد تأخذ هذه المظلة هيئة زينة الشرفة وفي صناعتها تستخدم ألواح خشبية منقوش عليها نقوش خفيفة غير غائرة بما يشبه البلاط القيشاني.

أما النمط السادس من الرواشين فيرى فيه البعض أنه أجمل الرواشين لاتسامه بتفاصيله الواضحة ونقوشه وزخارفه التي أنجزت بعناية فائقة، وثمة مظلة في الأعلى عليها عقد ثلاثي الفصوص، أما الكوابل فهي ذات منمنمات بديعة، وثمة تشكيلة متباينة من الستائر الشبكية وحصير النوافذ وقطاعات ذات نقوش بارزة، وفي الأسفل يصل الإبداع في النقش على الخشب إلى قمة ذروته حيث ثمة صفوف رائعة من المقرنصات وأشكال مجوفة نصف دائرية لا ينجزها إلا مبدع فنان.