المجبر العربي.. مهنة آيلة للاندثار

بعد دخول الطب الحديث على المجتمع اللبناني

TT

هي مهنة تعتمد على الخبرة المتأتية من التجارب العملية، وقد أصبحت على حافة الانقراض بسبب التطور الكبير في الطب وتوفر المرافق الطبية في كل المناطق اللبنانية. يتم تناقلها غالبا داخل الأسرة الواحدة، حيث يقوم الأب بتعليمها لأبنائه وهكذا دواليك. وتعتبر من أقدم المهن التي عرفها الإنسان، وذلك بسبب الحاجة الملحة لها منذ زمن بعيد. ويرى بعض العاملين فيها أنها أبدية وستستمر طالما أن السبب مستمر، وهو الفقر أولا والثقة بها ثانيا، فضلا عن أنها تمارس من آلاف السنين، بينما الطب الحديث جديد على مجتمعاتنا وقد بدأ مع الانتداب الفرنسي.

إنها مهنة المجبر العربي، تلك المهنة العريقة، التي لطالما كان لها مكانتها وحضورها في الذاكرة الشعبية اللبنانية في معالجة الكسور التي تصيب عظام الإنسان بشتى أنواعها وأشكالها، حيث ظل «المجبر العربي» على مدى سنوات طويلة الطبيب بعرف كل قرية، وحتى أيضا في المدينة عندما كان عدد الأطباء قليلا، لذلك فإن المجبر كان يحل محل الطبيب ويقدم المعالجة بأدواته البسيطة.

يقول العم محمد بعلبكي «المجبر العربي»، وهو أحد المجبرين الثلاثة المتبقين في الجنوب اللبناني: «أزاول هذه المهنة منذ ما يقارب من خمسين عاما ونيف، وهي تحتاج إلى جرأة وحنكة في آن واحد، تعلمتها من والدي وأصبحت أضاهي طبيبا متخصصا بها، لأنني طيلة هذه الفترة كنت كمن حاز على شهادة الدكتوراه في الطب العربي».

ويضيف بعلبكي الذي يختزن في ذاكرته تاريخ مهنة مهددة بالاندثار، مفتخرا بمزاولتها رغم عمره الكبير: «سأبقى متمسكا بها، وأعتبرها التاج الذي أحمله، وحين أتخلى عنه أموت، فرغم التطور العلمي ما زلت متربعا على عرش لقبه (حكيم عربي) على الرغم من أنني اكتسبته بأسلوب شعبي وبدائي ومن دون دراسة أكاديمية».

الكثير من الحالات تقصد العم بعلبكي كي يعالجها وهي تتجاوز 30 حالة في الشهر، ومنها حالة الشاب فادي الذي وقع أرضا فأصيب بشعر في كاحل قدمه، مما دفعه للتوجه إلى عيادة بعلبكي المتواضعة والتراثية بدلا من المستشفى، نظرا لثقته بقدرة بعلبكي على تطبيبها.

بدوره، يقوم بعلبكي ابن بلدة كفررمان الجنوبية بتشخيص الحالة موضحا أن «قدم علي مشعورة والعظم أزيح من مكانه ويجب إعادته لأن الزيت داخل العظم تحرك أيضا».

وتلفتك وأنت في حضرة الحكيم محمد كما يحلو له مناداته عدته الأساسية، وتتمثل في «ود الخشب» والجفص العربي الذي يصنع من زلال البيض والطحين ولب عظام البقر، يمزجون جيدا ثم يتم وضعهم على قطعة شيش (ضمادة)، وتلف على الكسر (المنطقة المصابة) بشكل جيد، بينما «الود» هو عبارة عن عصا خشبية يتم نصبها في الحقل ليستعملها في شد القدم، ليعيد الفقرات إلى مكانها.

ويتابع بعلبكي قائلا «إننا نلجأ إلى (ود الخشب) هذا في حالة الفكش (الالتواء في الكاحل، وابتعاد الفقرات عن بعضها)، حيث أستخدم زيت الزيتون في تمسيد مكان الإصابة، وأشد القدم إلى الأعلى حتى (تطرق) الفقرات، ثم أضع قطعتين من (الود) وألف المنطقة المصابة بقطعة قماش تربط وتعلق في الكتف».

التجربة والإتقان في العمل لدى بعلبكي جعلته خبيرا في معرفة ما إذا كانت القدم مشعورة أو مكسورة قبل إجراء المريض الصورة الشعاعية لها، التي بات غالبا يطلبها كضمانة - وهو لم يكن يعرفها عندما ورث المهنة - معتمدا على اللمس لمعرفة شكل الكسر ودرجته، ليعيد العظم المكسور إلى وضعه الطبيعي، ثم يثبته ويجبره بخلطته الخاصة.

وحول الحالات التي يختص بمعالجتها يجيب قائلا: «في الواقع هناك الكثير من حالات الكسور التي لا أتدخل أبدا في علاجها، كالكسور التي تصيب الكتف والحوض والعضد والفخذ، حيث أترك أمر علاجها للطب الحديث، لأنني مؤمن بمقولة (رحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده)، وتتركز معالجتي على الكسور التي تصيب الساق والزند».

وهذه الحالات تعتبر الأكثر شيوعا بين الناس، وقد عالج بعلبكي آلاف الأشخاص حتى اليوم في بلدته والبلدات المحيطة، ولا يزال يلتقي بمعظمهم، حيث يشكرونه ويثنون على خبرته.

ومن الأسباب التي جعلت هذه المهنة تدخل نفق الانقراض ما يشير إليه العديد من الأطباء من أن جيل اليوم لا يتحمل هذه «الجبيرة»، إضافة إلى شكاوى بعض الأطباء المتخصصين من تجدد حالة الكسور مرة أخرى لوجود خطأ في «التجبير»، فضلا عن أن أسلوب الغذاء الحالي عند الكثير من الشباب غير صحي، حيث يتناولون الكثير من الأطعمة، وبخاصة ما يسمى الوجبات السريعة، التي تحتوي على الكثير من الدهون وبالتالي تسبب هشاشة في العظم.

يقول ناجي، وهو أحد المرضى، إنه يثق بالمجبر العربي أكثر من الطبيب المختص لأنه خبير، وثانيا لأن أجره أقل، فأطباء العظم يطلبون الكثير، وقد وافقه الرأي معظم الحاضرين، واللافت أن بعضهم ممن تلقوا تعليما عاليا.

أما حسن، وهو مريض ينتظر دوره، فيرى أنه لا يزال لهذه المهنة رصيدها، لأن أي خطأ في عيادة طبيب متخصص ينتشر بسرعة بين العامة، بينما يبقى الخطأ في منازل المجبرين العرب محصورا بين قلة من أصحاب الشأن.

وفي الختام يبدي الحكيم محمد أسفه على عدم تدارك الطب الحديث لأهمية مهنته، بعد أن قام برميها في سلة المهملات، متحسرا على هذا الزمن الذي لم يجد فيه ابنا واحدا من أبنائه يرغب في تعلمها ويتوارثها عنه، «بينما كنا نتسابق على تعلم الطب العربي في أيامنا»، وفق تعبيره.