الحياة تعود إلى أهوار العراق.. والسكان يشكون غياب الخدمات

وصول 150 نوعا من الطيور المهاجرة من آسيا وسيبيريا إليها

المرأة في الأهوار تتحمل أعباء حياتية كبيرة
TT

مساحات مفتوحة للمياه ومئات الأنواع من الطيور البرية، وقصب البردي. أينما تمد نظرك في اتجاه الأفق سوف تجد نفسك محاطا بالمياه وكأن الطوفان قد حل هنا.. بل إن قصة الطوفان تبدأ من هنا حسبما تذكر أسطورة «جلجامش» السومرية. بين سماء زرقاء صافية ومشمسة تحلق فيها أنواع يصعب إحصاؤها من الطيور المائية، بينها الإوز البري والبط بأشكاله وألوانه الجميلة، وبين مسطحات مائية خضراء يعيش فيها أشهر أنواع السمك النهري، مثل الشبوط والبني والكطان، في هذه البيئة الساحرة والصعبة في آن واحد يعيش سكان الأهوار التي كان قد جففها النظام السابق لأسباب عسكرية وسياسية.

لكن الحياة اليوم تعود لأهوار جنوب العراق التي كانت جزءا من حضارة «سومر» من جراء موجة الأمطار والفيضانات التي شهدها العراق في فصل الشتاء الحالي، ومعها تعود أسراب الطيور المهاجرة والحياة المائية بكل تفاصيلها، يضاف إلى هذا، وهو الأهم، عودة سكان الأهوار الأصليين بعد أن هجروا الأهوار في وقت سابق جراء نقص الخدمات والجفاف، حيث كانوا يقتاتون على الصيد وتربية حيوان «الجاموس» وصناعة السجاد والأكواخ من القصب والبردي (نباتات تنمو في تلك المنطقة) والزوارق النهرية «المشحوف»، فيما بقيت المرأة في الهور هي سيدة المكان بممارستها للأعمال اليومية الشاقة من رعي وصناعة منتجات الألبان وأعمال منزلية.

أسامه هاشم، مدير مركز إنعاش الأهوار في محافظة ذي قار، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الأمطار الكثيفة التي شهدها العراق في الآونة الأخيرة انعكست إيجابا على أهوار المحافظة ورفعت نسب الغمر فيها إلى معدلات قياسية»، مبينا أن «نسبة الغمر ارتفعت في الأهوار الوسطى من 38 في المائة في نهاية عام 2012 إلى ما نسبته 48 في المائة خلال الشهر الحالي». عودة المياه إلى الأهوار صاحبتها عودة لأكثر من 150 نوعا من الطيور المهاجرة بينها طيور نادرة قادمة من جنوب شرقي آسيا قدرت بمئات الآلاف.

ويقول فيصل غازي، أكاديمي متخصص في علم الطيور، إن «الأهوار شهدت عودة عدد من الطيور المهاجرة والنادرة قادمة من دول جنوب شرقي آسيا وكازاخستان وسيبيريا، بشكل أسراب تعد بمئات الآلاف»، مشيرا إلى أن «هناك 150 نوعا من الطيور المهاجرة بينها أنواع نادرة من البجع والبلشون والإوز الصيني تم تسجيل وصولها إلى الأهوار بعد عودة المياه إليها، الأمر الذي أدى إلى زيادة التنوع البيئي فيها».

مناطق أهوار جنوب العراق في محافظات جنوب العراق (البصرة، وذي قار، وميسان) كانت خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي محط أنظار مئات السياح العرب والأجانب، حيث قام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بتأمين المنطقة وشق الطرق إليها ونصب محطات تعقيم المياه وبناء المراكز الصحية والقرى السياحية، إلا أن الواقع السياحي في الأهوار تدهور جراء الحرب العراقية الإيرانية، لينهار بالكامل خلال عقد التسعينات بعد تجفيف الأهوار، ليستمر الحال حتى يومنا هذا.

ويقول الخبير السياحي عدي الركابي إن «مناطق الأهوار لا تزال تفتقر إلى أبسط مقومات العمل السياحي واستثمارها بالشكل الصحيح، حيث إن الجهات المعنية بتدريب الملاكات الخاصة بإدارة المجمعات السياحية لم تعمل على حفظ التوازن البيئي من خلال حماية بعض الكائنات الحية من التدهور والانقراض والعمل على حماية المصادر النباتية والحيوانية التي تجذب السياح».

وتابع أن «قلة المرشدين السياحيين الذين لديهم الدراية والخبرة وعدم وجود فنادق سياحية في الأهوار جعل البلد يفقد مصدرا مهما لو استثمر لدر على ميزانية العراق ملايين الدولارات».

الجبايش، التي تعد أكبر مناطق أهوار جنوب العراق، عادت إليها بعض العوائل التي كانت تسكنها سابقا رغم قلة الخدمات والمشاريع الخاصة بالتوطين والتعليم. ويقول جاسم الأسدي، أحد وجهاء أهوار الجبايش في الناصرية، إن «أهوار الجبايش عاد إليها هذه الأيام بعض سكانها الذي هجروها سابقا بسبب ضنك العيش وقلة الخدمات المقدمة لهم»، مبينا أن «العودة كانت قليلة لانعدام الخدمات المقدمة لسكان الأهوار رغم الحديث المستمر من قبل الحكومة عن مشاريع عملاقة تساعد في توطين أهالي الأهوار الأصليين». وتابع أن «المشاريع الحكومية في المنطقة خاصة المتعلقة بالخدمات والتعليم لا تزال تراوح بين قيد الإنشاء وسوء التنفيذ، فالمدارس قليلة وأغلبها مبنية من القصب، وحتى الكادر التدريسي يأبى القدوم إلى الأهوار، فيما مشاريع تحلية المياه معطلة، والذي يعمل لا يفي بالغرض، مما يجعل أغلب سكان المنطقة مستمرين في الهجرة منها».

يذكر أن عدد سكان مناطق الأهوار كان يقدر بـ500 ألف نسمة، لكن هذا الرقم تقلص إلى نحو عشر حجمه في عهد النظام السابق بعد أن جرى تحويل مجاري الأنهار عنها، مما تسبب في هجرة معظم سكانها وجفافها بشكل تام، إلا أن الفترة الأخيرة سجلت عودة لبعض سكانها، الأمر الذي أدى إلى تزايد الطلب على «المشحوف»، وهي الزوارق النهرية المصنوعة من القصب والمطلية بالقار، والتي يعود تاريخ صناعتها إلى أكثر من 5 آلاف عام كما ورد ذكره في ملحمة «جلجامش» خلال رحلته في البحث عن الخلود.

ويقول محمد الوائلي، أحد حرفيي صناعة الزوارق في الأهوار، إن «(المشحوف) تسمية يطلقها السكان المحليون على الزوارق المصنوعة من القصب، وهي وسيلة النقل الرئيسة في الأهوار»، لافتا إلى أن «التسمية تكون بحسب الوظيفة التي تؤديها الزورق، فمنها (الطرادة) وهو الزورق سريع الحركة، والـ(كعدة) طويل الحجم وهو للوجهاء، و(الشختورة) ويكون كبيرا ومزودا بمحرك آلي، وهذا النوع ازداد الطلب عليه مؤخرا بعد عودة عدد من سكان المنطقة».

المرأة في بيئة الأهوار لا تزال هي سيدة المكان وذلك لممارستها الأعمال الشاقة بدلا من الرجل، كصيد الأسماك وعمل السلال من القصب والبردي، إضافة إلى الأعمال المنزلية وتربية الأطفال. وتقول نزهة الساري، امرأة من الأهوار في العقد الخامس من العمر «المرأة في الهور هي التي تقوم بكافة الأعمال سواء رعي الجاموس أو صيد السمك، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية وتربية الأطفال». وتابعت أن «هناك إهمالا كبيرا للمرأة في الأهوار، حيث إنها تفتقد للرعاية الصحية الجيدة، وغير قادرة على الالتزام بالتعليم لكثرة مشاغلها وقلة المدارس».

وكانت الحكومة العراقية دعت إلى ضرورة الاهتمام أكثر بواقع المرأة في الأهوار من خلال سن بعض القوانين التي تساعدها في الحفاظ على حقها في التعلم وتوفير مصادر عيش كريمة لها.

يذكر أن الأهوار (جنوب العراق) كانت مساحها، مع ما يتخللها من مدن وأراض زراعية أو صحراوية قبل عام 1991، قد بلغت ما بين 15 ألفا إلى 20 ألف كيلومتر مربع قبل تجفيفها. لكن مساحتها تقلصت إلى نحو عشر حجمها السابق، ثم عادت إليها الحياة بعض الشيء بعد عام 2003.