الصناعات الحرفية التونسية تتدهور مع انحسار السياحة

بدعوى أن كل ما هو تقليدي ماضوي وكل ما هو مستورد حديث ومتطور

أوان ومنتجات تونسية تقليدية تعاني الكساد بسبب غياب السياح الأوروبيين والأميركيين («الشرق الأوسط»)
TT

«كان يعمل لديّ 10 من الحرفيين، وكنت أبيع في الأسبوع ألف زوج من البلغ (جمع بلغة) والآن أعمل بمفردي ولا تزيد مبيعاتي عن 20 زوجا في الجمعة». بهذه العبارة استقبلنا الصحبي العكاري الحرفي المعروف في السوق العتيقة في القيروان، أول مدينة عربية في أفريقيا.

وقال العكاري لـ«الشرق الأوسط»: «أسعارنا ليست منافسة فقط، بل منخفضة ورخيصة، على الرغم من الجودة العالية، التي تتمتع بها فهي صناعة يدوية مائة في المائة، فالأسعار بين 12 و14 دينارا تونسيا (بين 6 و7 يورو). وكنا نبيعها للسياح الأوروبيين بـ70 و80 دينارا، وكانوا مسرورين بذلك، لمواصفاتها وجودتها وانخفاض أسعارها مقارنة بما في أسواقهم».

وقال الباحث في علم الاجتماع لزهر الذوادي لـ«الشرق الأوسط»: «انخفاض الطلب على البلغة التونسية، وتفضيل البعض الأحذية الرياضية من جهة، وتنامي ظاهرة كراهية الذات في المجتمع من جهة أخرى، بسبب الثقافة التي سادت تونس منذ 1881 وحتى 2011، ولا تزال آثارها واضحة في الشارع التونسي، التي ترى أن كل ما هو تقليدي ماضوي، وكل ما هو مستورد من أوروبا حديث ومتطور». وتابع: «العودة للذات ليس شأنا ثقافيا، وإنما هو اقتصادي بالدرجة الأولى، وبهذا المعطى تعول الدول على شعوبها في ظل العولمة والمجتمعات المفتوحة من أجل تفضيل سلعها المحلية وما له علاقة بمصالحها الشاملة».

العكاري يعمل لصالح تجار محليين، لكنه يرى أن ذلك ليس كافيا من أجل مواجهة متطلبات الحياة، في ظل تصاعد غلاء الأسعار، ويقول: «لدي حرفاء يطلبون هذه السلعة من تونس وسوسة والمنستير والمهدية». ولا يرى العكاري الصحبي البالغ من العمر 48 سنة أي حياة مهنية له خارج صنعته التي تشربها منذ الصغر. «هذه الصنعة ورثتها أبا عن جد، منذ نعومة أظافري كنت أرافق أبي إلى الدكان، وحذقت هذه الحرفة وعمري 16 سنة، والآن لدي 4 أطفال، ولكني لا أفكر في تعليمهم هذه الصنعة».

لم يجنِ العكاري ثروة من حرفته، ولكنه حقق الاكتفاء الذاتي له ولأسرته «لم أحصل على ثروة، ولكني تزوجت وأنجبت أطفالا، صحيح أكلنا جميع مدخراتنا في السنوات الـ10 الأخيرة، كنا نعمل مع السياح، ولكن ظروف الأوروبيين والأميركان متعبة. 40 مليون عاطل في أوروبا، وهناك 9 سلع أساسية لم يعودوا قادرين على شرائها، فضلا عن توفير مبالغ للسياحة كما كان الحال سابقا».

ويتساءل العكاري: «ولكن إذا لم يستطع كثيرون منهم المجيء لتونس، فلماذا لا نذهب إليهم، لا سيما أن الصينيين أصبحوا يغادرون أوروبا نفسها، لأن بضاعتهم لم تعد تلقى الإقبال الذي استقبلت به في السنوات الماضية».

يتنهد العكاري ويواصل الحديث: «هذه السلعة لو تجد من يسوقها في دول الخليج فلن يلبس الخليجيون غيرها، هي مناسبة للبيئة العربية ولا سيما اللباس العربي المتمثل في القميص أو الثوب كما يقولون. ولدينا، بلغ صيفية وأخرى شتوية، ويمكن لبسها مثل الحذاء، ويمكن استخدامها كـ(الشبشب)، بتعبير إخواننا المشارقة والخليجيين أو (الصرمايا)، كما يقول الشوام، ولا سيما السوريون». وأردف: «إذا كان هناك من لا يقدر على تنظيم أسواق قارة في الخليج، لماذا لا تعرض هذه السلعة على التجار من الخليج ليروجوها في بلدانهم، فهي صناعة من الجلد، وتدوم سنوات وراء سنوات، ويمكننا إعطاؤهم ضمانات مكتوبة والتزامات مثل الضمان».

ويعود للحديث عن السياح، ويقول: «السياح كانوا ينقلون هذه السلع بكميات كبيرة إلى إيطاليا وفرنسا، وقد عرض علينا البعض بيع هذه السلع في دول الخليج، ولكننا رفضنا. نحن نريد تسويق بضاعتنا بأنفسنا أو بالتعامل المباشر مع التجار الخليجيين. هذه صنعتنا ورثناها أبا عن جد، ولا يمكن أن تكون مثل زيت الزيتون الذي يشترونه بالجملة ويبيعونه، كما لو كان سلعة إيطالية أو إسبانية وغيرها».

وعن مدى معرفته بالسوق الخليجية قال: «لو تباع هذه السلعة في دول الخليج فستكون بأسعار تزيد عما لو كان الشراء من تونس مباشرة».

وعن مستقبل صناعته، أكد أنه «لا يجب أن تكون هذه الصناعة رهن بالسياحة وعدد حضور السياح والمقدرة الشرائية للأوروبيين والأميركان. لقد حان الوقت للاهتمام بالأسواق العربية من توريد واستيراد».

وعما إذا كان هناك سياح عرب «يأتي سعوديون وإماراتيون وقطريون، ويشترون بكميات متوسطة كهدايا، وهم منبهرون بأنها صناعة تقليدية يدوية 100 في المائة، ولكنهم قليلون جدا. وقد زارنا إخوة من العراق منذ فترة، وأخذوا بعض (البلغ)، لكننا رفضنا أخذ أموال منهم، لأنهم عراقيون، ونحن متعاطفون مع الشعب العراقي، كما أننا متعاطفون مع الشعب الفلسطيني ومع جميع إخواننا في المشرق والمغرب».