حكاية المرأة الفرنسية مع قيادة السيارة

كتاب لرئيس المجلس الدستوري عن الرائدات اللاتي أيقظن عاصمة النور

لوحة المرأتين في نزهة بالسيارة
TT

بعضهن ذوات أسماء مشهورة، لكن الأجيال الفرنسية الجديدة لم تسمع بأغلبهن. إنهن النساء اللاتي كن أُوليات في كثير من الميادين، لكن المجتمع الفرنسي «الذكوري» أنكر عليهن حقوقهن وحارب فكرة المساواة لأنها تسلب الرجل سلطته عليهن. أليس من المثير والمفيد، بل من المسلي، لامرأة عربية من العالم الثالث، أن تطالع كتابا عن التعسف الذي تعرضت له الفرنسية، بنت العالم الأول وبلد حقوق الإنسان؟

يحمل الكتاب الصادر عن منشورات «فايار» الباريسية عنوان: «هؤلاء النساء اللاتي أيقظن فرنسا»، ومؤلفته ليست واحدة من الكاتبات النسويات بل جان لوي دوبريه، رئيس المجلس الدستوري، حاليا، والوزير ورئيس البرلمان، سابقا. وهو رجل «نسويّ» بحق، وسليل عائلة سياسية معروفة، وكان أبوه، ميشال دوبريه، رئيس الوزراء الأسبق قد منح حقيبة وزارية لأول مسلمة في الحكومة الفرنسية، هي الجزائرية نفيسة سيد قارة.

في مقدمته، يتساءل الناشر: من يعرف، اليوم، إليزا لومونييه، أو جولي فيكتوار شوفان، أو ماريا فيرون، أو مادلين بريس؟ وإذا كانت الطالبات الفرنسيات يتقدمن لامتحان البكالوريا ويدخلن الجامعات لدراسة المحاماة أو الطب، فذلك بفضل أولئك النساء اللاتي ناضلن لفرض إصلاحات على مجتمع يحكمه الرجال. والهدف لم يكن المناكفة بل، ببساطة، الرغبة في الوجود.

من خلال سيرة 26 امرأة، يأخذنا دوبريه وشريكته في تأليف الكتاب، فاليري بوشنيك، في جولة تاريخية مشوقة ومتحركة. إن التشويق حرفة الكاتب الذي كان وزيرا للداخلية ومؤلفا لعدد من الروايات البوليسية. وهو يتوقف طويلا عند حكاية جان شوفان، تلك الطالبة الشجاعة التي خاضت المعارك من أجل أن تؤدي قسم المحامين في عام 1900. وكانت حجة الرافضين لعمل المرأة في المحاماة هي أن المهنة تفرض على من يشتغل بها «حياة خارجية» وسيطرة على الجمهور ومخالطة للحشود، وكلها أمور لا تجوز للنساء. وفي مؤتمر مخصص للهيئة المشرفة على اختيار المحامين وقف أحدهم ليلقي خطابا جاء فيه: «إن مجتمعنا يحمي المرأة تحت سقف البيت. وهي فكرة نراها، أيها السادة، في كل العصور والحضارات، ذلك أن أخلاق أي شعب معرضة للضياع حالما تبدأ الحياة العامة للنساء. وأول بوادر تلك الحياة العامة عمل المرأة في السياسة وفي المحاماة». وقد صفق الحاضرون للخطاب بحرارة، والأدهى منه أن هناك من شكك في أخلاق القضاة، مستفهما: «من يضمن لنا أن لا ينساق القاضي وراء المحامية لأمور لا علاقة لها بالحجج القانونية؟».

وما قيل عن المحاميات يشبه ما قيل عن أوائل الطبيبات. فقد كانت الفرنسية التي تريد تعلم مبادئ العلاج، في القرن الثامن عشر، تعتبر امرأة «ملتبسة» ومتخلية عن أنوثتها. وفي عام 1861، وبعد كثير من الأخذ والرد، أفلحت جولي فيكتوار دوبييه في اجتياز امتحان التعليم الثانوي، البكالوريا، لكن وزير التربية رفض منحها شهادة التخرج لأنه اعتبر الأمر «مهينا له». وكان على الطالبة المسكينة أن تنتظر سبعة أشهر للحصول على الورقة الرسمية، بفضل تدخل من الإمبراطورة أوجيني.

قبل تلك الفترة، أي في القرن الثامن عشر، بدأت الأنيقات من الباريسيات محاولاتهن الأولى لقيادة تلك الخيول الآلية المكشوفة التي تنتجها المصانع وتدعى «السيارة». وكانت المحاولات تجري بعيدا عن الأعين، أثناء النزهات الصباحية في غابة بولونيا، وتقتصر على بنات العائلات الأرستقراطية. ومع حلول القرن التاسع عشر، بدأت السيارات بالظهور في الجادات العريضة للعاصمة. وقد وصف الكاتب أميل زولا، في إحدى رواياته الشهيرة، بطلته لولا التي حضرت سباق الجائزة الكبرى للسيارات في باريس وقد جاءت راكبة عربتها المطعمة بالفضة التي تجرها أربعة جياد بيض رائعة وقد تلقتها هدية من أحد النبلاء.

في بدايات القرن العشرين، كان الثمن الباهظ لاقتناء السيارة يجعل منها وقفا على كبار التجار والوجهاء. وكانت القيادة نوعا من الأناقة التي تسعى وراءها السيدات بحيث إن الصافي ألفريد كابيس نشر مقالا قال فيه إن اختراع السيارة ليس حدثا صناعيا فحسب؛ بل هو، في شكله الحميم، حدث يندرج في تاريخ الأناقة المعاصرة. وقد رسم جوليوس لوبلان ستيوارت لوحة تمثل امرأتين في كامل زينتهما تقودان سيارة صغيرة مكشوفة من طراز «بيجو» وبرفقتهما كلب. وعادة ما كانت قيادة المرأة للسيارة نوعا من التسلية المؤقتة وليست ممارسة يومية. وغالبا ما تتم م دون رخصة، مع العلم بأن الحصول على «شهادة كفاءة» لقيادة المركبات موقعة من مدير الشرطة كانت إلزامية في فرنسا منذ عام 1896.

في العام التالي، كانت دوقة دوسيز (1847 - 1933) أول فرنسية تحصل على رخصة قيادة. ورغم اعتراض كثيرين، فإن انتساب السائقة إلى العائلات ذات الألقاب النبيلة لعب دورا في تسهيل مهمتها. لكن الحصول على الرخصة لم يكن الحدث الأهم في مسيرة المساواة بقدر ما كان إيقاع أول غرامة على سائقتها لمخالفتها قواعد المرور عند عطفة شارع «لا غراند أوغستين» في باريس. هنا تحققت العدالة بين الجنسين وبين الطبقات في الحقوق والواجبات. وكان مقدار تلك الغرامة 20 فرنكا قديما. وقد جرت العادة أن يتولى تاجر السيارات مهمة تعليم القيادة لمن يشتري سيارة منه. ولم تفتح مدارس القيادة أبوابها إلا في عام 1917.

قبل ذلك، كانت كامي دو غاست قد حاولت الاشتراك في سباق للسيارات بين باريس والعاصمة الإسبانية مدريد، عام 1903، لكن نادي السيارات الفرنسي رفض تسجيلها. وكتب صحافي ألماني: «قيادة السيارة في المدينة شيء والجلوس وراء مقود سيارة سباق، شيء آخر».. ثم قامت الحرب العالمية الأولى وتغير كثير من المفاهيم. وإلى جانب فنانات مثل الفرنسية مستنغيت ونجمة الاستعراض الأميركية جوزفين بيكر، شاركت سائقات في سباق «مونتي كارلو» اعتبارا من عام 1925، وفي السنة التالية افتتحت النساء أول ناد للسيارات خاص بهن.