مثلها مثل الكثير من المهن، أصبحت مهنة التجنيد تصارع الزمن من أجل البقاء، وأصبح إصرار أربابها بمثابة سلاح في مواجهة كل رافد جديد يحاول القضاء عليها أو إحلال مفردات أسفنجية مكانها، تخلو من مهارات ما تصنعه اليد، التي تتفنن في راحة البشر، وتقدم وسائد ومراتب وألحفة ومفارش مصنوعة من خيوط القطن الندي. المهنة ظلت لعقود طويلة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياة الناس وعلى الأخص أفراحهم، إلا أن التخلي عنها بدأ مؤخرا ويزداد يوما بعد يوم.
الروايات التي تروى في كل بيت مصري حول المنجدين والتنجيد لا تحصى، ففي الماضي اعتادت كل عروس استقبال المنجد في بيتها قبل الزفاف لعمل كل مستلزمات المنزل الجديد من مراتب ووسائد وأغطية وغير ذلك، وأيام التنجيد هذه كانت بمثابة احتفال صغير يسبق الاحتفال الكبير بالزفاف.
وعلى الرغم من أن المنتجات الجاهزة من الأغطية المُصنعة والمراتب قد جعلت دور المنجد هامشيا ولا يكاد يذكر في عصرنا الحالي، فإن الكثير من الناس ما زالوا يلتزمون بالطقوس ذاتها عند الزفاف، ويعطون للتنجيد الأهمية السابقة نفسها، لكنهم قلة لا تذكر.
ارتبطت حرفة التنجيد في المدن والقرى المصرية بأشخاص اكتسبوا شهرتهم من إتقانهم الصنعة، وتميزت مشغولاتهم بتفصيلات لا يبدعها غيرهم، فمهنة التنجيد تجمع بين حرفية الصنعة وإبداع الحرفي في إخراج أفضل ما لديه.
يقول توفيق مصطفى (63 عاما) «أعمل بمهنة التنجيد منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري، حيث تعلمتها وأتقنتها على يد والدي الذي كان يعمل بها ويكتسب شهرته من إتقانه لها، لكنني لم أعلمها لأي من أولادي لأنها أصبحت مهنة في طريقها للانقراض».
ويضيف الأسطى مصطفى «في الماضي كانت كل الأسر المصرية تعتمد على المنجدين لعمل كل لوازمهم، وهو ما لم يعد موجودًا الآن، فالعروس اليوم تشتري المراتب والأغطية الجاهزة، وقلما يأتي إلينا من يريد تنجيد أشياء بسيطة أخرى أو تنجيد المفروشات القديمة، فالمنجد الآن موقعه على الهامش وليس كما كان من قبل».
ويستطرد بنبرة يملؤها الحزن «على الرغم من أن المشغولات والمراتب الجاهزة عمرها قصير ولا تحتمل أكثر من عامين وغير صحية، في حين أن مراتب القطن أكثر قيمة وعمرًا وراحة للبدن ولا تتلف بمرور الوقت، فإن الإقبال على الأولى يزداد يوما بعد يوم نظرا لأنها تكون بنفس التكلفة تقريبا، كما أنها لا تستهلك وقتا في تصنيعها، فالألحفة الفيبر والمراتب الجاهزة مصنوعة من الألياف الصناعية وهي ليست ذات قيمة مقارنة بالألحفة المصنوعة من القطن».
وعن الخطوات المُتبعة في التنجيد يقول الحاج توفيق «في البدء نقوم بتنفيض القطن بالعصا، ثم يتم ضربه بالقوس حتى يتم تفكيكه ثم نقوم بتخييط القماش وملئه بالقطن، وبعد ذلك يقوم المنجد بعمل الغرز المناسبة للحاف أو المرتبة، وهو ما لم يعد موجودا الآن في ظل المنتجات الجاهزة، لم يعد هناك إبداع في الرسومات والخيوط كما كان من قبل».
ويسترجع ذكرياته مع المهنة قائلا «في الماضي كان التنجيد بمثابة فرحة كبيرة لدى كل أسرة، حيث تعقد الاحتفالات في وجود المنجد، ويدر عليه أصحاب المنزل دخلا إضافيا ووجبات غداء كل يوم أثناء وجوده بينهم، حيث يعتبر وجود المنجد بينهم فرصة للمباهاة بكرم الضيافة والوضع الاجتماعي للعائلة وغيرها من أسرارهم». ويقول ضاحكا «كانت لدينا لغة خاصة للتفاهم في ما بيننا خاصة عند العمل في المنازل، فمعظم المصطلحات التي تُستخدم تكون بخصوص الأجور المدفوعة أو الطعام المُقدم أو وصف أصحاب المنزل، فمثلا نرمز للسيدة في المنزل بـ(الإبرة)، واللحوم بـ(العدوانة)، والرجل بـ(العديب)، فعندما نقول (إبرة كتيانة) على سبيل المثال فنعني بذلك أن سيدة المنزل ليست على ما يرام أو ليست كريمة وفقا للسياق الذي نتحدث فيه».
وعن الأدوات التي تستخدم في التنجيد يقول الحاج توفيق «قديما كنا نعتمد على القوس كأداة أساسية في التنجيد، بالإضافة إلى المدقة الخشب التي تستخدم في الدق على الغرز، والإبر على مختلف مقاساتها، والمطرق الذي يستخدم في ضرب القطن لفك تيلة القطن، ولكن بعد ذلك ظهرت الماكينات التي تستخدم في التنجيد بديلا عن هذه الأدوات القديمة، والتي على الرغم من اختصارها للوقت وتوفيرها للمجهود فإنها لا تعمل بنفس كفاءة هذه الأدوات التقليدية».
ويستطرد في حماس «ما زلت أحتفظ في بيتي بقوس التنجيد كتذكار، فهذا القوس كان بمثابة العود لدى العازفين، وكل منجد يتقن المهنة بإتقانه استخدام القوس، لكن اعتمادنا الكلي الآن على الماكينات التي أضرت بالعاملين في التنجيد، فقد فقدت ثلاثة أصابع من يدي بسببها، فضلا عن أنها تقطع تيلة القطن على عكس القوس الذي يفككها فقط». ويضيف «يتكون القوس من الوتر الذي يصنع من أمعاء الأغنام والذي يُشد منه على القوس، والعود المكون من قصبة غليظة من الخشب، والدف وهو عبارة عن لوح رقيق من الخشب، وبكرات حرة الحركة يشد عليها الوتر، كما أن هناك عدة أنواع من الإبر المخصصة للتنجيد من أبرزها الميبرة وهي أكبر مقاس يستخدمه المنجد، والإبر الكبيرة المُستخدمة في تنجيد الألحفة وأيضا الإبر العادية والتي تستخدم في تثبيت الأوجه على الألحفة».
وينهي الحاج توفيق حديثه قائلا «معظم العاملين بالتنجيد تخلوا عن مهنتهم للعمل في مهنة أخرى تدر عليهم دخلا ولا تتجه نحو الانقراض مثلما هو الحال في مهنتنا، لكنني لم أفكر في ذلك يوما خصوصا أنني لم أتعلم مهنة أخرى ولا أتقن سواها، وقبل كل ذلك أحبها».