دانيال داي لويس: غادرت دوري في «لينكولن» بشعور من الحزن

في حديث خاص مع «الشرق الأوسط»

دانيل داي لويس مع سالي فيلد في مشهد من فيلم «لينكولن» (أ.ب)
TT

الممثل الوحيد الذي فاز بالأوسكار ثلاث مرات في تاريخ هذه الجائزة لا يبدو عليه أنه يستطيع أن يتوقف عن التميز. هذا طابع وليس تطبعا. الممثل البريطاني العتيد الذي يحتفل في التاسع والعشرين من أبريل (نيسان) المقبل بميلاده السادس والخمسين، خامة فنية برهنت على أنها تكسب معظم جولاتها حين يأتي الأمر للمناسبات السنوية وجوائزها.

موعده الأول مع الأوسكار كان سنة 1990 عندما نال ذلك التمثال الذهبي الشهير عن فيلم «قدمي اليسرى»، والثاني عن دوره في «سيكون هناك دم» سنة 2007، والثالث هذا العام عن دوره في «لينكولن». يحسب له أيضا دخوله المسابقة ذاتها عن فيلمين آخرين هما «باسم الأب» (1993) و«عصابات نيويورك» (2002) لكنه لم ينل الجائزة في أي من هاتين المرتين: «هل علي أن أنالها في كل مرة؟»، يقول ذلك ضاحكا.

والأوسكار ليس الجائزة الوحيدة التي نافس فيها وفاز أكثر من مرة: هناك البافتا (أربع مرات) والغولدن غلوبس (مرتين).

ولد في لندن سنة 1957 ابنا لسيسيل داي- لويس وجيل بالكون، ابنة مايكل بالكون الذي ترأس إدارة استديوهات إيلنغ الشهيرة التي سادت إنتاجاتها الخمسينات والستينات. دخل مدرسة كنت أولا ثم درس التمثيل في «بريستول أولد فيكتوريان سكول». شقيقته تاماسين مخرجة تسجيلية كان لها نصيب من الدعم، فآخر فيلم حققته كان «جرح خصوصي» سنة 1996 الذي نال مدحا لافتا من قبل النقاد.

لعب دانيال في السينما أول مرة في فيلم لجون شلسنجر عنوانه «أحد لعين» أو Sunday Bloody Sunday، وذلك سنة 1971 ثم عمد إلى بضعة مسلسلات وأفلام تلفزيونية قبل أن يشترك كواحد من ممثلي فيلم «ذ باونتي» من بطولة أنطوني هوبكنز سنة 1984 وهو العام الذي واصل فيه التمثيل للسينما فظهر بعد ذلك في «مغسلتي الجميلة» (1985) و«غرفة مع منظر» (1985) وهما من بين كلاسيكيات السينما البريطانية اليوم. فيلمه الأميركي الأول ورد سنة 1988 وهو «الوجود الخفيف غير المحتمل» The Unbearable Lightness of Being لفيليب كوفمن وبعده في «نجوم وخطوط» قبل أن يعود إلى بلاده ليضطلع ببطولة دور تطلب منه جهدا بدنيا غارقا في الصعوبة، ففي «قدمي اليسرى» لعب شخصية الرسام المصاب بالشلل الدماغي الذي نتج عنه عدم القدرة على الوقوف والسير وتشغيل اليدين مما دفعه لإتقان الرسم مستخدما أصابع قدمه اليسرى. كان فيلما غريبا ومأسويا وقيما أخرجه جيدا جيم شريدان وشاركت في بطولته برندا فريكر وفيونا شو.

لبضع سنوات، بعد ذلك النجاح بقي دانيال داي- لويس حديث المجتمع السينمائي فتكاثرت عليه العروض وقبل منها ما رآه مناسبا: «آخر الموهيكانز» (1993) لمايكل مان لم يكن عملا رائعا لكن آثار ذلك لا تبدو على الممثل المنخرط جيدا في تأدية ذلك الدور التاريخي الذي كان راندولف سكوت لعبه في نسخة 1936 (وبطريقته الخاصة التي لا تتضمن الطموح للأوسكارات). أيضا استعين به في «عصر البراءة» (مارتن سكورسيزي - 1993) و«الملاكم» (جيم شريدان - 1997) قبل عودته إلى إدارة مارتن سكورسيزي في «عصابات نيويورك».

دوره في «سيكون هناك دم» يبقى أفضل أدواره، لكنه في الوقت ذاته أفضل ما في فيلم «لينكولن» لستيفن سبيلبرغ. درس الدور كتبا وصورا وأفلاما قديمة وامتهن تدريبا طويلا على إتقان الصوت واللكنة والحركة مما جعله الفوز الوحيد لذلك الفيلم الذي رشح لإحدى عشرة جائزة أوسكار لكنه فاز باثنتين فقط (ذهبت الثانية لأفضل تصميم إنتاجي).

* الجميع، مستر داي- لويس، يتحدث عن طريقتك في الأداء. لكني لم أقرأ لك أنك وصفت بنفسك هذه الطريقة.

أوه.. هذا سؤال كبير لا أدري من أين أبدأ. طريقتي في معالجة الشخصية لهذا الدور هي الطريقة ذاتها لأي دور آخر لعبته. أبدأ بأن أجد وسيلة لفهم الشخصية التي سأقوم بها بطريقة شخصية جدا بالنسبة لي. مثلا في دور أبراهام لينكولن ساعد طبعا على أن حياته موثقة جيدا مما يجعلني قادرا على سبر غوره وإقناع نفسي ثم الآخرين بأني وجدت الثغرة التي أستطيع دخول الشخصية منها وتقمصها تماما.

لكي تصل إلى هذا الفهم عليك أن تبدأ من مكان ما.. صحيح. أبدأ دائما من القراءة. لكن هذا يعكس مشكلة أخرى. كم الكتب والمراجع التي وضعت عن لينكولن تكفي لأن أمضي سنوات حياتي هذه وفوقها سنوات وأنا غارق في القراءة. لذلك كان علي أن أدقق اختيار ما أقرأه. قرأت كثيرا. كان لدي عام كامل من التحضير وطبقات من الكتب. بعد ذلك يبدأ فعل الخيال.

* أتصور أن آخر يوم من تصوير طويل الأمد كما الحال في «لينكولن» كان بمثابة تحضير لعطلة طويلة تودع فيها شخصية لازمتك لأشهر طويلة.

نعم، لكنه كان أيضا يوما حزينا جدا. كنت أقول شكرا لله على أن التصوير انتهى، لكني كنت أيضا حزينا وأنا أغادر مكان التصوير وأعود إلى ذاتي. كان هناك إحساس هائل من الحزن ليس عندي فقط بل عند ستيفن (سبيلبرغ) والباقين. لقد عشت في داخل هذه الشخصية أكثر من سنة ولم يمض يوم واحد لم أكن فيه ممتنا للفرصة التي واتتني للعب هذه الشخصية الفريدة. لقد أحببت هذه الشخصية إلى حد أنني لم أكن أريد فعلا مغادرتها.

* لا بد أن لينكولن، كشخصية، عنى لك أشياء محددة جذبتك إليه خصوصا أنه معروف أنك تختار أدوارك بعناية.. ما هي هذه المواصفات الخاصة؟

لا أستطيع الجواب على هذا السؤال. لا أعرف لأنه ليس أنني شخصيا لا أعرف بل لأن الإجابة صعبة. أصارحك بأن الدور جاذب من ناحية أخرى لا أعتقد أن أحدا يضعها في الاعتبار؛ هذا الدور جاءني وأنا في سن متقدمة. سن لا يتسلم صاحبها الكثير من العروض النوعية. هذا جعلني أدرك أنها فرصتي لدور آخر أمارسه على نحوي الخاص الذي وصفته لك. نعم الشخصية عليها أن تعني لي الكثير وأن أجد الوسيلة للنفاذ إليها. لكن عامل السن أساسي هنا. رغم ذلك ترددت في البداية لأني كنت أعي المسؤوليات المتراكمة على مثل هذا الاختيار. أنا بريطاني أقوم بلعب شخصية رئيس أميركي وعلي أن أتقن ما أقوم به وليست هناك ضمانات فورية. هذه مسؤولية. سؤالي لنفسي هو ما إذا كنت أستطيع أن أخدم هذه الشخصية وأخدم المخرج الذي يتحمل مسؤولية اختياري.

* كونك دقيقا جدا في اختياراتك يجعلك حريصا على أن يكون مظهرك «لينكوليني» كاملا. الانحناءة والتجميل والصوت.. كيف درست كل ذلك؟

كانت هناك جماعات خبيرة ومظهريا كل شيء يبدأ بالماكياج، لكن الانحناءة هي طبيعية من عندي (يضحك). ربما لا تعرف أننا جربنا الماكياج قبل سنة كاملة من التصوير. ثم مع قراءتي للينكولن وتصفحي للصور أدخلنا تعديلات خلال السنة حتى تتطابق الصورة على نحو صحيح. لكن الحقيقة أنني كنت أعتقد أنني لن أحتاج إلى ماكياج. اعتبرت أنني أستطيع بقليل من «توضيب» اللحية وتسريح الشعر أستطيع أن أكون هو (يضحك)، لكني اكتشفت أنني كنت مخطئا.

* لا تحب الماكياج؟

أحب الماكياج حين أمثل للمسرح وأحاول أن أتحاشاه حين التمثيل للسينما.

* كم ساعة تطلب منك الجلوس على كرسي التجميل؟

ساعة ونصف الساعة صباح كل يوم. تسألني عن شيء عادة ما يريد الممثل عدم الحديث فيه.. أو هكذا أعتقد.

* لماذا؟

لأن الممثل يريد أن يقنع المشاهد والمشاهد الناقد أيضا أن التجميل لم يكن عاملا رئيسيا. إن ما شاهدته على الشاشة هو الممثل وليس الماكياج. هذا مثالي.

* قيل لي إنك كنت في مزاج مرح خلال التصوير، وعذرا لا أدري كيف تستطيع أن تكون وأنت ممثل بالغ الجدية؟

(يضحك) نعم قد يدعو الأمر إلى الغرابة. أنا ممثل جاد من حيث أن لعب الدور وإجادته في فيلم بالغ التكلفة، وفي هذه الأيام كل فيلم مهما كان رخيصا هو مكلف، هو مسؤولية جسيمة. أعتقد أن مسؤوليتك أن تتعامل والفيلم بمسؤولية، لكنه من المهم أن لا آخذ نفسي على محمل الجد إلى هذا الحد. على العمل أن يكون ممتعا.. بكلمات أخرى.

صحيح.. وأنا لا أستطيع أن أجيد إذا كان العمل غير ذلك. إذا لم يكن العمل مدعاة للمتعة فهو ليس في نظري ناجحا. هناك ما يحد من نجاحه أو جودته. العمل هو لعبة ذات شروط ولا تستطيع أن تتصرف حياله على غير هذا النحو.

* من هم أبطالك في الحياة، تاريخيا وسياسيا أو في أي شأن آخر؟

أعرف أن ما سأقوله سوف يبدو ناشزا، لكن أبراهام لينكولن سيبقى دائما واحدا من الرجال الذين سأعتبرهم نماذج تاريخية. لكن أول بطل أحببته كان هوراشيو نلسون.

* أعتقد أنه كان قائدا عسكريا في القرن الثامن عشر؟

نعم. كان أدميرالا بحريا. أعجبتني شخصيته وأنا طفل لأني ولدت قريبا من «المتحف البحري» وتعرفت عليه هناك. كان خسر عينا وذراعا في حروبه ثم قتل في ترافلغار. أستطيع أن أرى نفسي وأنا صغير مجمدا أمام صورته وهو مصاب بذراعه ولا يزال يقاتل بشراسة. بطلي الآخر وأنا صغير كان يوري غاغارين.

* هل توافق إذا ما تقدم إليك أحدهم بمشروع تمثيل إحدى هاتين الشخصيتين؟

سيعتمد ذلك على العناصر ذاتها التي تجعلني أقبل أو أرفض الأدوار جميعا، لكن مبدئيا نعم. للأسف ليست هناك الكثير من الأفلام التاريخية هذه الأيام مثل أفلام «ووترلو» أو التي تدور عن شخصيات عسكرية مثل «بونابرت».

* هل تجذبك السلطة؟ أعني أن مثل هذه الأفلام دارت حول شخصيات تمتعت بالسلطة والقيادة العسكرية.

أعتقد أن السلطة هي من بنات الخيال. شخصيا لم أتمتع يوما بأي سلطة أو قيادة. ولا أعتقد أنني أريد أن أكون بخلاف ما أستطيع أن أمارسه في البيت من مسؤوليات. بكلمة واحدة لا تجذبني فكرة التمتع بالسلطة ولا أشغل نفسي بالتفكير في هذا الصدد.

* كذلك كل واحد من هؤلاء، بمن فيهم، وربما خصوصا، لينكولن، حمل قضية. هل تحمل قضايا سياسية أو اجتماعية ترى أنك موكل بالتعبير عنها؟

لا أخاف أن أقول رأيي. إذا ما وجدت أن هناك وضعا سيئا أو وضعا يحتاج للنقد. الحقيقة أننا في عالم متضارب وأكثر تعقيدا من الماضي. لكني أحتفظ لنفسي بحق إبداء الرأي من عدمه وبحقي في اختيار الوقت المناسب.

* بعض الممثلين يحصلون على أوسكارات فإذا بمشوارهم يتأثر سلبا. هذا لم يحدث معك من حسن الحظ.

عندما نلت الأوسكار الأول شعرت أنني في بداية طريق جديد. طبعا ليس هناك من ممثل جاد يؤدي دورا وعينه على الجائزة - أي جائزة. ليس هذا ممكنا. لكن هل تعلم شيئا؟ تسلمت العديد من العروض التي رفضتها. أعتقد أن صانعي الأفلام يدركون ماذا يريدونه من الممثل المعين وماذا وكيف يستطيع الممثل إفادتهم. مثلا أنا لا أرى نفسي صالحا لفيلم موسيقي أو ربما كوميدي، على الأقل هذا ما أعتقد، وهذا يعني أنني لن أوافق على فيلم من هذا النوع وهذا ما يصبح شائعا. المخرج يعرف ممثله ويطلبه لما هو عليه وليس لما يريده أن يكون.

* لقد شاهدت في حياتي العديد من الأفلام إلى درجة أنني أستطيع التأكيد أن هناك ممثلين يصبغون الفيلم بحضورهم وليس العكس.

تماما صحيح، لكن إذا لم يخطئ كل من المخرج والممثل في اختيار كل للآخر. إذا ما جلبت ممثلا محددا لبطولة فيلمك فإن حضوره سيؤثر في صياغة الفيلم، وهذا صحيح.. أو لن يؤثر، وذلك أيضا صحيح لكن هذا إذا حدث ليس في صالح الفيلم.

* هل الانتقال ما بين أفلام بريطانية وأفلام أميركية أمر صعب على ممثل مدقق مثلك؟

من المفترض أن يكون الجواب لا. الفيلم حالة عمل تنتمي إلى ظروف معينة وهي كثيرة من بينها مصدر التمويل لكنه ليس كل شيء. من جانب ثقافي يمكن لفيلم مثل «آخر الموهيكانز» أو «قدمي اليسرى» أو حتى «لينكولن» أن يكون فيلما من إنتاج ثقافة مختلفة أو تاريخ أو بلد مختلف. هذا بالطبع إذا ما تم التعاقد مع العناصر المحلية أو الخبيرة التي تنتمي إلى ذلك التاريخ.

* هل يختلف تعاملك مع مهنة التمثيل اليوم عما كان عليه بالأمس؟

لا. ربما كان على هذا التعامل يتغير بعض الشيء عبر السنين. لكني لا أعرف أي طريق آخر لمعاملة مهنتي هذه. أحب التمثيل وأحب هذا العمل على النحو الذي أمارسه ولا أرى نفسي منشغلا بالبحث عن وسيلة أخرى. ما أبحث فيه هو تطوير داخلي. من واجباتي أن أجسد الشخصية التي أريدها على نحو صحيح. هل أنا الآن ممثل أفضل مما كنت عليه قبل عشرين سنة؟ لا أدري. عليك أن تحكم أنت بذلك.

* هل لي أن أعتقد أن ممثلا خالصا ومتميزا مثلك يواجه صعوبة التطور إذا ما كانت بدايته كبيرة؟

شكرا لك. هذا تقدير كبير. ربما من الصعب أكثر وأكثر إجادة الدور على نحو يرتفع عما جاء عليه الدور السابق. أنت كممثل تريد أن تتجاوز نفسك، وفي «لينكولن» وجدت أن هذا التحدي موجود. لقد قرأت عشرات الكتب لكي أحيي الشخصية مجددا وبصورة متكاملة. لا أستطيع أن أقدمها بنفس الشروط السابقة. لا بد أن هناك تطورا مقصودا أو غير مقصود وإلا فإن هناك تراجعا.

* بالمقارنة مع شخصية خيالية مثل «سيكون هناك دم» كيف تستطيع إتقان مثل تلك الشخصية التي لا وقائع لها؟

العملية معقدة دائما هذا إذا أراد الممثل لها أن تكون. بالنسبة لي المعالجة ذاتها. علي أن أدرس الشخصية من كل جوانبها وإذا ما كانت خيالية أن أؤلف حقائق لها كما لو كانت واقعية.

* تحدثت قبل قليل عن السن وصعوبة الحصول على أدوار نوعية. بعض الممثلين غير منهاجه حتى لا يتوقف عن العمل، لكني لا أعتقد أنك من هذا النوع.

لا أستطيع أن أفعل ذلك. أعتقد أنها ستكون نهايتي وإذا ما أخطأت وأقدمت فلربما سأتوقف عن التمثيل إلى الأبد. سيكون ذلك خطأ قاسيا أرتكبه.

* ما الذي يجعل الممثل ممثلا رائعا؟

لا أدري كيف أجيب على هذا السؤال لأن هناك الكثير من الممثلين والكثير من الاتجاهات، لكن أعتقد أن الممثل هو نتيجة تراكمات من التجارب والظروف الخاصة به. كل ممثل هو جاد في اختياراته حتى ولو بدت للبعض الآخر اختيارات خاطئة أو سهلة. هذا ما يريده لنفسه. بالنسبة لي كما قلت لا أستطيع إلا أن أكون من أنا.