الحداد العربي.. مهنة تتلاشى بفعل التطور رغم توارثها

تعد من الصناعات القديمة والعريقة في لبنان

يوسف رعد أثناء صناعته أداة مخصصة للفلاح2- يوسف وعيسى رعد يصنعان معولا زراعيا3- عطا يقوم بتطويع قضيب من الحديد لصناعة شباك معدني
TT

لا يزال محافظا على مهنته منذ عام 1947 بعد أن توارثها عن والده، ويفاخر بأن صورته موجودة في كتاب القراءة العربية في الصف الرابع أساسي للتعريف بمهنة «الحدادة العربية».

مهنة ذات تاريخ أصيل لكن مستقبلها مجهول، بعد أن فقدت رواجها وعزها وأصبحت تقف عند حافة الاندثار.

إنه عبد الله رعد (88 عاما) الذي يجسد روح الماضي في محل الحدادة العربية الوحيد في منطقة بعلبك - الهرمل، عند مدخل سوق الخان في مدينة بعلبك منذ ما يزيد على 60 عاما.

تلك السوق التي تتكئ إلى جانب معبد «فينوس» الأثري منذ عقود طويلة، وتبعد عن قلعة بعلبك عشرات الأمتار، كانت تعتبر قديما إحدى أهم الأسواق التركية في المدينة إبان الحكم العثماني، لكن عوامل الزمن التي فعلت فعلها فيها قد أتت عليها وغيرت معالمها، ولم يبق من الماضي إلا محل رعد.

ويقول رعد في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته داخل محله: «رزق الله على أيام زمان كل شيء تغير، كان لهذه المهنة تاريخها العريق، حيث كانت الحركة في السوق تبدأ فجرا ولا تنتهي حتى ساعات المساء. كان الفلاحون يقصدونني لإصلاح الأدوات الزراعية، خصوصا أيام الحصاد، فكنا ندق قرابة مائة منجل في اليوم حيث يستعمل في حصاد القمح والشعير وحشيشة الكيف وغيرها، ويستمر العمل حتى منتصف الليل».

ويتابع مؤكدا أنه أصبح منذ سنوات عدة الحداد العربي الوحيد في البقاع من شماله إلى جنوبه: «لا يزال المزارع يأتيني من أقاصي البقاع الشمالي ومن مختلف البلدات البقاعية لإنجاز بعض الأدوات أو إصلاحها، لأنه يؤمن بصدق عملنا وجودته وإتقانه، وهذا يؤكد أنه لا غنى عن هذه المهنة».. يشير رعد.

منذ العهد العثماني يجمع رعد فرنا عربيا ومطرقة وسندانا داخل محله الذي لا تتجاوز مساحته عشرة أمتار، مزاولا مهنة تصنيع الأدوات الزراعية، ومنها المنجل، سكة الحراثة، المعول، الرفش، الفأس، المجرفة، القدوم، المطرقة، البلطة والمنشار... أدوات توزعت على الرفوف وأصبحت جاهزة للبيع.

مهنة تحتاج إلى سواعد قوية وحديد ونار، حيث تعتريك الرهبة وأنت ترى الحديد المصهور كالجمر يلين ليأخذ الشكل المطلوب بين المطرقة والسندان.

70 عاما من العمل المتواصل كانت كفيلة بجعل المعلم عبد الله يجلس على كرسي لا قدرة له على الوقوف، متقاعدا، واضعا المحل في أيدي بعض أولاده الـ17 ليتسنى لأحفاده رؤية تراث أجدادهم. ولا يزال أولاده يعتبرون المحل مصدر رزقهم الوحيد، محافظين على تراث هذه المهنة التي عاشوا وترعرعوا منها سنوات طويلة.

فالتراث والمعاصرة يلتقيان بين يدي يوسف، أحد أولاد المعلم عبد الله، الذي يوضح: «اليوم ورغم تراجع مهنتنا في العقود الأخيرة أمام هجمة الآلات المتطورة، واستيراد هذه الأدوات بأقل كلفة، فإن هذه الصنعة لا تزال مقبولة نوعا ما، نظرا لغياب المنافسة من جهة، والجودة الموجودة في صناعتنا من جهة أخرى».

وانتقالا إلى منطقة دير القمر، وتحديدا إلى المنطقة التي كانت تعرف بسوق الحدادين، نجد أن الحداد جوزيف عطا ابن الـ64 عاما وحده لا يزال صامدا، يعاند «قلة الحيلة» التي أصابت حرفته.

ويعود عطا بالمهنة إلى أيام «العز» شارحا: «الحدادة العربية فن غريب وقديم، فقديما كانت الحدادة عصب الفلاح والنجار والإسكافي والكهربجي والمنازل أيضا، كنا نصنع الشبابيك والأبواب المزخرفة، والقدوم والمنشار والسكة والبلطات وكل ما يمت إلى هذه المهن بصلة».

أما اليوم فكلها غابت، حتى سوق الحدادين غابت، وحده عطا لا يزال صامدا في منطقة جبل لبنان في زوبعة التطور الذي اقتحم كل الحرف اللبنانية، وأخذها من دون حسيب أو رقيب. مهارة عطا دفعت بموسى المعماري صاحب «قلعة موسى» الواقعة قرب بلدة دير القمر إلى الاعتماد عليه في إنجاز الكثير من الأعمال، كأدوات الحراثة، وأدوات الفلاح والنجار والإسكافي، لأنها لا تصنع إلا عند حداد عربي.

واللافت في هذه الحرفة هو قدمها؛ إذ يفوق عمرها 100 عام، وقد ذاع صيتها في لبنان في بداية العشرينات، وراجت في أربعينات وخمسينات وحتى تسعينات القرن الماضي، وكانت تعتمد على الفحم الحجري والرمل في تسييل الحديد، وعلى عضلات الحداد وعلى سندان، مطرقة، منشار، المسن وريشات معدنية.

آلات جديدة أدخلها عطا على مهنته كـ«الجلخ» و«المبرد الكهربائي»، لكنه لا يزال محافظا على حرفيته: «أعمل على صنع مناجل للفلاحين، وسكك حراثة لهم.. إنه موسم الفلاحة وهنا يكثر العمل».

وعن مراحلها يكشف عن أن عملية الحدادة تمر بمراحل عدة، حيث يأتي بالحديد الخام، ثم يضعه في فرن داخل الفحم حتى يلين، بعدها يخرجه ويضعه على السندان ويبدأ بطرقه وبتحويره، كي يصبح منجلا يستعمل في حصاد القمح، أو قدوما يستعمل في مهنة الإسكافي والنجار والكهربجي.

ويلفت إلى أن لكل أداة طريقة صنع خاصة، فالذي يحتاج إلى أسنان يسحله ويبرده ثم يشرب في المياه الملونة.

وللماء الملونة حكايتها في حرفة الحدادة، وفي ذلك يقول: «هي أساس متانة المنجل، القدوم، المطرقة، وحتى سكة الفلاحة، وهناك ثلاثة ألوان: أزرق وأبيض وأصفر.. الأزرق نغطس به الفولاذ القاسي، وحسب قساوة الفولاذ يتم تحديد كل لون، بعدها تنطلق المرحلة الثانية وهي (تطويع الحديد بالشكل المراد). ومن ثم يوضع في وعاء (الصفوة)، وهو عبارة عن صفوة الفحم الحجري بعد إشعاله، حيث يرطب بالماء ليبقى مطواعا في العمل خلال استخدامه».

وفي الختام وبرأي المعلمين رعد وعطا، فإن مهنة الحداد العربي مهددة بالزوال نتيجة غياب التشجيع للحرفيين ودعمهم من الدولة للمحافظة على المهن القديمة، إذ إن حماية المهن التراثية وإيجاد أسواق لها تقع على عاتقها.