«وداعا للوحة».. عبارة قد تغضبك، لكنها لا تخلو من نوازع إعجاب ببعض الأعمال، وستبقى ظلالها تلفح أي مشاهد حصيف ملم بجماليات الفن ومراحل تطوره وتشكله عبر التاريخ، وهو يتابع نتاج هذه الدورة الحادية عشرة لبينالي الشارقة الدولي، والذي يشارك فيه نحو مائة فنان من شتى دول العالم، وافتتح فعالياته الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة الثلاثاء الماضي.
ورغم أن مقاييس الجمال وفلسفته ورؤاه اعتراها كثير من التغيير بحكم ثورة التكنولوجيا والتطور العلمي الهائل في عالمنا، إلا أنه من العبث أن يكون العمل الفني بلا ذاكرة، تحفظ له خلوده وامتداده في الزمان والمكان. هذا الهاجس وغيره يبدو لي أنه لم يكترث به كثيرا مسؤولو البينالي، والذي يراكم فضاءه التجريبي منذ انطلاقته الأولى قبل أكثر من عشرين عاما. ففي هذه الدورة طغت هموم التجريب على أغلب الأعمال المشاركة، حيث يتوافر أمام الفنان حرية صناعة الفن بطرق وأساليب مختلفة، وفي سياق بيئة وحدث وأداء وإمكانيات ضخمة يوفرها مناخ البينالي بانسيابية وحيوية قلما تجدها في بيناليهات أخرى.
انطلق البينالي تحت عنوان «نهوض.. نحو خارطة ثقافية جديدة»، وهو عنوان لافت، حاولت تحت مظلته قيمة البينالي الفنانة اليابانية يوكو هاسيكاوا أن تربط مفهوم الفناء أو الساحة في العمارة الإسلامية، بوصفه فضاء اجتماعيا يحتضن الثقافة المحلية، بالفضاء الفني للبينالي الأكثر تشابكا واتساعا على مستوى العلاقة البصرية والإنسانية معا. لكن طموح هاسيكاوا في أن يصبح هذا المفهوم بمثابة خط شفيف يشد هموم الفنانين المشاركين لتيمة البينالي اصطدم بشكل غير مباشر بفضاء التجريب المفتوح، والذي تسربت منه الفوضى والعشوائية باسم الفن، وزاحمت طرائق جديدة في المعرفة والتفكير والشعور، والتي تشكل المسعى الأساسي للبينالي.
ومن ثم، كان لافتا في هذه الدورة تراجع فنون التشخيص والتجريد، ومفهوم اللوحة بأنساقها الجمالية المستقرة وذاكرتها التعبيرية الجياشة، في مقابل طغيان أعمال «الفيديو أرت» و«التجهيز في الفراغ»، والتي تعتمد على وسائط تعبيرية متعددة. وهي فنون ذهنية تنبثق من صيغ وقوالب فكرية معينة، تعتمد على الفراغ والعلاقات المساحية مادة أساسية في الموضوع. وكذلك لغة الجسد والأداء الحي أمام الجمهور.. وهو ما يطالعنا في عمل «مذاق حجر» للفنانة النيجيرية أتويونغنكانغا، حيث يجمع العمل بين الصورة والأداء الصوتي والجسدي الذي تقوم به الفنانة نفسها، في فضاء بصري عبارة عن فناء في بيت أثري. استغلت الفنانة العناصر الموجودة به من صخور ونباتات وفرشت الأرض بقطع من الزلط الأبيض، تتناثر عليها مجموعة من البلاطات مطبوع عليها رسوم وخطوط كروكية سريعة. ومن خلال الأداء الجسدي للفنانة والتي تجلس بطرف الفناء حاملة فوق رأسها نبتة خضراء. وخلال العرض تسرد تجربة شخصية من طفولتها في نيجريا، وعبر أماكن كثيرة بالعالم، محاولة بإيقاع شعري أن تجد عبر هذه الأشكال والمساحات المجزأة شيئا مشتركا يتماس بين خطوط حياتها المتشابهة وفضاء العرض نفسه.
وفي عمل الفنان المصري وائل شوقي «أقوال مأثورة» الفائز بجائزة البينالي، يوظف الغناء في تشكيل الفضاء البصري، وذلك عبر أغنية صوفية تتألف من شذرات وحوارات موسيقية، وهي مترجمة على الأردية، يرددها 32 مؤديا يفترشون وسائد في حيز مستطيلي ضيق، في مقدمته منصة خشبية يجلس عليها مؤديان يقودان المجموع. ويسعى الفنان من خلال هذا العمل إلى إحياء شكل من أشكال الموسيقى الصوفية القديمة في ثوب تجريبي معاصر.
وفي عمل لافت للفنان الألماني ثيلو فرانك بعنوان «الصخرة اللا متناهية»، يبني نموذجا ضخما على شكل خيمة تشبه الصخرة، مثبتة بأعمدة من الفولاذ الألمنيوم، ومكسوة من الداخل والخارج بقماش أسود ومرايا زجاجية، ويتوسطها أرجوحة تتدلى بحبل من السقف. وما إن تدلف إلى الداخل خالعا نعليك حتى تحاصرك المرايا من كل الاتجاهات، وحين تمتطي الأرجوحة، ومع مناورات الضوء المتنوعة، تفقد القدرة على الاتزان والإحساس بالزمن، وتحس بأن جسدك يتلاشى رويدا رويدا في انعكاسات المرايا المتعددة الأسطح. إنها متاهة إنسانية جديدة، تعكس تصورا مغايرا عن الضوء والمكان والحركة، وفي حدودها المتلاشية ومن نقطة محورية ثابتة تتخذ من الكائن البشري محورا للإيقاع، ومن خلال فراغ منظم أو كهفي، لكن رغم وحشيته لا يخلو من روح الأسطورة.
وفي سياق مغاير لجدية العمل السابق، يروي الفنان الصيني جيا تواي وانغ في عمل تركيبي ينتمي لفنون «الفيديو أرت» قصة حياة فتى في السادسة عشرة ينتقل مع عائلته من قرية صغيرة إلى المدينة، وعبر أصوات تتداخل وتتباعد يصارع هذا الفتى المراهق ليحافظ على هويته وسط الحشود، ليلوذ في النهاية بعالم الفيديو الافتراضي، ويصبح غير قادر على العيش في متاهة الخيال والواقع. ويعرض العمل قصة أخرى لبائعة جائلة وهي تصارع الموت وحيدة في منزلها، وأيضا حادثا مباغتا في مقهى للإنترنت، ودراجا يصاب بانهيار عصبي فجأة. وتنتهي لقطات الفيديو بمعنى محدد وهو صعوبة الفصل بين المتخيل والواقع، في عالم تتداخل فيه الحدود والثقافات.
واختارت الفنانة المغربية لطيفة إيش إخش، الطوب والصبغة، لتطرح بعض الأفكار المحددة حول المعنى والمظهر، من خال عمل تركيبي. عبارة عن حجرة غطت غالبية أرضيتها بكسر وفتات من الطور الأحمر، وصيغت الجدران ببقع ولطشات من لون الطوب نفسه. ويعكس نوعا من السحر تمارسه بعض القبائل بشمال أفريقيا، وأن الطوب المكسر هو مادة السحر، بينما آثاره مطبوعة على الجدران.
على هذا المنوال من البساطة التي تصل إلى حد السذاجة أحيانا، نطالع عملا مركبا آخر للفنانة السعودية سارة أبو عبد الله، وهو عبارة عن شاشة فيديو ملون معلقة على أحد الجدران، وسيارة محطمة تتوسط الحجرة. تقوم الفنانة عبر الفيديو بدهان السيارة بلون وردي فاتح، وهو لون يشي بالأنوثة، وتتصبب عرقا، وهي تقف وحيدة في الصحراء متشحة بعباءة سوداء تحت وطأة الشمس الحارقة، وبعد أن تفرغ من عملية الدهان تجلس في المقعد الخلفي، وليس في مقعد القيادة، في إشارة رمزية إلى حظر القيادة على المرأة في السعودية.
أما الفنان المصري الآخر الفائز بجائزة البينالي مجدي مصطفى، فقدم عملا تركيبيا صوتيا بعنوان «خلايا صوتية.. أيام الجمعة»، عبر مواد مختلفة عبارة عن غسالات ومنصات ومكبرات صوت. وهو يشكل استلهاما واقعيا لمناخ الحي الشعبي «أرض اللواء» الذي يقيم به بالقاهرة، حيث ضجيج الغسالات القديمة المصنوعة يدويا من مختلف الأحجام والماركات، وهي تدور كلها في توقيت واحد، على خلفية ميكروفونات تذيع خطبة الجمعة، وبينما تقوم الميكرفونات بتكبير دوران الثلاجات الفارغة، في التسجيل يصف شيخ الجامع النساء بوصفهن أداة للإنجاب، بشكل يشي بالتماثل مع الآلات الفارغة التي تدور في الخلفية، وكدلالة على منظومة القيم الاجتماعية السائدة.
تعكس هذه النماذج من أعمال البينالي - رغم تفاوت المستوى الفني بينها - نوعا من الاستعارة للفن المفاهيمي، الذي برز في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وكان من أهم سماته التحول من رسم «الشيء» إلى التركيز على رسم «الفكرة»، وبأقل الوسائل التي يمكن أن تشير إليها، سواء في شكل رمز أو حتى تعليق عابر. فالمهم بالنسبة للفنان المفاهيمي نسب فراغ معينة ومناسبة، لتعبر عن بناء مهلهل عن قصد وإلى زوال. ولم تفلح حيل المحاكاة والسخرية والكاريكاتير في أن تنقذ هذا التيار الفني من الانحسار، فقد أصبحت بمثابة طرق شبه ميكانيكية تكرس للنمط والأفكار الجاهزة المسبقة، أكثر مما تحرر اللاوعي الإبداعي لدي الفنان.
ينفلت من أسر هذا المفهوم عدد من الأعمال المشاركة في البينالي، استطاعت أن تخلق طابعا فنيا خاصا من خلال المواءمة بين قيم التجريد والتجسيد، وبانبثاقات حداثية شفيفة. من أبرز هذه الأعمال عمل الفنانة الإيرانية منير شهرودي فارمايان «حديقة شازدة»، وهو فائز بجائزة البينالي.. العمل عبارة عن رسوم متنوعة على المرايا وآلاف القطع المتكسرة من الزجاج العاكس، تتقاطع معه مواد من البلاستر والخشب، ومن خلال تكرار الأنماط والأشكال تعيد الفنانة استلهام فن الموزاييك الإسلامي من منظور جمالي مغاير لتصور من خلاله منظر حديقة «ماهان» في إيران بثوب جديد.