«أسطوانة قورش» أول وثيقة عن حرية العبادة تغادر المتحف البريطاني لتجول الولايات الأميركية

وجدت في العراق وبخط مسماري بابلي أصدرها ملك فارسي.. وقراؤها منحوها أبعادا أخرى

TT

لم يصل إلى علم العالم أن وثيقة متطورة حول مفهوم حرية العبادة صدرت في العالم القديم (539 ق.م) إلا أواخر القرن التاسع عشر نتيجة تنقيب عن الآثار في المنطقة. الوثيقة صدرت بأمر من الملك الفارسي قورش الذي احتل منطقة الفرات في العراق في تلك الفترة، بما عرف آنذاك بالدولة البابلية، وقد أصدر العهد الذي عرف باسم «أسطوانة قورش» التي يصفها بعض الموثقين بأنها أول وثيقة حقوق إنسان ضمنت حرية العبادة في العالم القديم، إذ سمحت به في جميع أنحاء الإمبراطورية الفارسية مع الإذن للرعايا الذين أحضروا من بلاد أخرى إلى الإمبراطورية بالعودة إلى أوطانهم. هذه الوثيقة التي تتربع نسخة منها على مبنى مدخل الأمم المتحدة، غادرت المتحف البريطاني حيث تقيم منذ أكثر من قرن باتجاه أميركا إنها واحدة من القطع الأثرية التي نجت من الدمار ووصلت إلينا من العالم القديم.

تم العثور على «أسطوانة قورش» في عام 1879 أثناء حفريات بعثة المتحف البريطاني في بابل في العراق الحديث، أثناء عمل المنقب الأثري البريطاني –الآشوري «هرموز رسام»، على الآثار في منطقة الرافدين. في تلك الفترة صادفته قطعة على شكل أسطوانة من الطين المشوي مكتوبة باللغة المسمارية البابلية (الأكادية) التي هي أقدم شكل من أشكال الكتابة. وقبل أن يعرف ماهيتها تماما نقلها إلى لندن وهي مكسورة على شكل قطعتين أساسيتين تفتقد بعض أجزائها ليتم فك رموزها من قبل علماء الآثار لاحقا. تحتوي الأسطوانة على 45 سطرا توزعت 35 منها على القطعة الأولى (أ) والبقية على القطعة الثانية (ب). الأسطوانة تعرضت للترميم عام 1960 حيث جمعت القطعتان، ومنذ ذلك الحين الأسطوانة المسمارية معروضة في قسم بلاد الرافدين في المتحف يدرسها العلماء من منطلق كونها وثيقة وقطعة من تاريخ العالم القديم نموذج للتسامح بين الأديان. فماذا تقول هذه الوثيقة تماما؟

يشجع النص الذي كتب على الأسطوانة الفخارية على حرية العقيدة في الإمبراطورية الفارسية والسماح لمن رحلوا بالعودة إلى ديارهم، ما يؤذن ببداية تسامح ديني في إمبراطورية شاسعة متعددة المعتقدات. ورغم أن الوثيقة لم تنص على اسم شعب أو ديانة ما إلا أنه يعتقد أن المقصود بها أكثر من غيرهم اليهود الذين تم سبيهم من فلسطين من قبل ملوك آشور وبابل. وتذكر التوراة أن اليهود الأسرى رجعوا إلى بلادهم مرة أخرى حيث أعادوا بناء المعبد في أورشليم القدس. ويشير اليهود في أدبياتهم إلى الملك قورش على أنه رمز للتسامح. إلا أنهم يذكرون أن القرار تم بإلهام من «إلههم يهوه»!! وعما إذا كان يمكن اعتبار القطعة فارسية يشير نيل ماكرغر مدير المتحف البريطاني إلى تداخل الأمور السياسية في تلك المنطقة التاريخية، فالأسطوانة وجدت في منطقة عراقية نتيجة حفريات بريطانية بعد اخذ الإذن من الإمبراطورية العثمانية. والنص مكتوب باللغة البابلي الأكادية وبالخط المسماري، وفيه إشارة إلى الهام الإله البابلي مردوك لقورش في إصدار هذا القرار. الوثيقة إذن يجب أن تؤخذ من منظور بابلي.

* احتفاء إيراني

* إن قيمة هذه الوثيقة المبكرة جدا ليس في حجمها ومكانها في المتحف البريطاني فقط، بل في مضمونها الذي اعتمد عليه أفراد وجهات معروفة لتأكيد وجهت نظرهم أو مواقفهم، مثل شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي تتبع خبر انتشار الوثيقة بعد ترميمها بداية الستينات، وأشار إليها في كتاب «الثورة البيضاء لإيران» عام 1967 ضمن استراتيجية حكوماته لمراعاة الحقوق والحريات. وحاول أن يربط حقبته بحقبة «الأخمينيين» أجداد الفرس القدماء، ووصف قورش على أنه «أول حاكم في إمبراطوريتنا يتكلم عن الحقوق الأساسية للإنسان». بالطبع كان هذا في مرحلة الإصلاحات التي حاول أن يطبقها شاه إيران بعد فشل انقلاب مصدق وسعيه لشد انتباه الإيرانيين مرة أخرى إلى حكمه وإمكانيته في توفير نظام عادل. في السنة التالية (1968) افتتح شاه إيران مؤتمرا نظمته الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان وأشار في كلمته إلى «الوثيقة السابقة لكل الوثائق الخاصة بهذا الشأن»!! وفي العام 1971 وفي خطاب بمناسبة عيد النيروز (رأس السنة الفارسية)، أعلن الشاه أنها ستكون سنة قورش احتفالا بمرور 2500 سنة على حكم ملوك فارس. في تلك السنة أعار المتحف البريطاني الأسطوانة المسمارية لإيران حيث علقت على النصب التذكاري المعروف باسم «نصب الشهيد» المعروف حاليا باسم «برج آزادي». وبهذه المناسبة أوفد الشاه أخته الأميرة أشرف بهلوي إلى نيويورك حيث قابلت أمين عام الأمم المتحدة كورت فالدهايم نسخة مقلدة من الأسطوانة للذكرى. ولا تزال النسخة معروضة منذ ذلك الحين مع ترجمة بالفارسية والإنجليزية والفرنسية، بصفتها نسخة من العالم القديم لمبادئ حقوق الإنسان. وفي تلك الفترة، احتفت الصحافة الإيرانية أيضا بهذه الوثيقة وتناولتها من منظور تاريخي وسياسي، رابطة إياها بمشاريع الإصلاح التي يقوم بها الشاه. أما في عام 2010 فقد زارت الأسطوانة إيران وكانت مناسبة استغلها الرئيس محمود أحمدي نجاد ليتحدث عن حرية الشعب الفلسطيني! الوثيقة لم تكن شأنا رسميا فقط في إيران، فعندما وقفت شيرين عبادي ناشطة حقوق الإنسان الإيرانية الشهيرة لتستلم جائزة نوبل للسلام عام 2003، استشهدت بما ورد في وثيقة قورش وقالت: «إن قورش أعلن وهو في عز انتصاره لسكان مملكته الجديدة أنه لن يحكمهم إن لم يقبلوا به».

ومن خارج إيران استند رئيس الولايات المتحدة السابق جورج دبليو بوش الابن إلى الوثيقة التي تقول، إن «من حق الناس إن تعبد الله بحرية». الطريف أن هذا المقطع غير الوارد في النص الأصلي يكشف عن الأخطاء التي وقع بها البعض عندما نسب للوثيقة ما لم تأت به من كلام، فضخم من مواد الأمر الملكي الخاص بقورش كما يعلق بحسب بعض الباحثين المختصين، فقد نسب إليها على سبيل المثال تحريمها للرق وتوفير اللجوء للمضطهدين.

* جولة في متاحف أميركية

* أسطوانة قورش ستعرض في الولايات المتحدة الأميركية مع 16 قطعة أثرية من الفترة التاريخية القريبة من فترة إصدار الوثيقة، يبرز الابتكارات والإنجازات التي تمت تحت الحكم الفارسي في الشرق الأدنى بين عام 550 قبل الميلاد وعام 331 قبل الميلاد. تستضيف المعرض خمسة متاحف بدءا من هذا الشهر، وتبدأ جولتها من العاصمة واشنطن ثم في هيوستن بولاية تكساس تليها نيويورك ثم مدينتي سان فرانسيسكو ولوس أنجليس في كاليفورنيا. وسيبرز الابتكارات والإنجازات التي تمت تحت الحكم الفارسي في الشرق الأدنى بين عام 550 قبل الميلاد وعام 331 قبل الميلاد. يذكر أن الجولة الأميركية تتم برعاية مؤسسة (إيران هاريتيج فاونديشن).