زهور ونيسي أول وزيرة جزائرية تنشر مذكراتها

قهوة «الأصيل» في قسنطينة أكثر أرستقراطية من عادة الشاي الإنجليزي

زهور ونيسي («الشرق الأوسط»)
TT

لو أردت أن أختصر زهور ونيسي ببضع كلمات، لقلت إنها المرأة الضئيلة القد العظيمة الإرادة. إن ألقابها الرسمية وغير الرسمية كثيرة. فهي أول امرأة تتقلد حقيبة وزارية في بلدها، وكانت عضوا في مجلس الأمة. وهي المجاهدة، سابقا ولاحقا، وعضو اللجنة المركزية في جبهة التحرير. وهي الأديبة التي كتبت أول رواية لكاتبة جزائرية باللغة العربية. وهي المربية التي عملت في التدريس. وهي رئيسة تحرير أول مجلة نسائية في الجزائر وممن ساهموا في تأسيس الإعلام الوطني. ولو تخيلنا زهور ونيسي ضابطا في الجيش الأحمر لكان صدرها ينوء تحت صفوف عشرات الأوسمة وشهادات التقدير من بلدها والبلدان الأخرى، آخرها «وسام الجميلات» الذي نالته من المهرجان الوطني للشعر النسوي.

مذكراتها «عبر الزهور والأشواك» الصادرة، حديثا، عن دار «القصبة» للنشر في الجزائر محاولة لسجن حياة مضطرمة في 500 صفحة.

وهو مسار امرأة تتسلح بطموح واسع، وتحتفظ بطاقة هائلة على العمل وتمتلك ناصية اللغة العربية التي تمنح حجتها طابعها المفحم، ذلك أن حسن التعبير هو سر الإقناع. وهناك سر ثان يقف وراءها ويبارك مسيرتها، هو زوجها أحمد جابر، زميلها في النضال ورفيق سنوات الفرح والغصات؛ هل رأيتم رجلا يكتب تقديما لمذكرات زوجته؟

يقول جابر إن زهور ونيسي جمعت عدة مهام بإرادة كبيرة، حيث إن بعضهم «استكثر عليها الجمع بين تلك المهام والنجاح فيها. وكان هناك من رفيقاتها ورفاقها من كان يريحهم أن يعبروها الوزيرة فقط، أو الأستاذة، أو المجاهدة فحسب، ويتعبهم أن تزاحم وتحتل، في كل مرة، المكانة المتميزة».

تكتب زهور ونيسي سيرتها بلغة أدبية أنضجتها التجارب، وتبدأ بتأدية التحية للمكان الأول، قسنطينة مسقط رأسها، مدينة العطر والتاريخ ومصدر إلهامها الدائم «نساء مدينتي محجبات بملاءات سوداء من الرأس إلى أخمص القدمين. وعقاب من تخرج من دون جوارب سوداء تحت الملاءة السوداء، داخل الحذاء الأسود، أن تركب على حمار يتجه وجهها إلى ذيله، يدور بالمرأة المتمردة الشاذة على القاعدة، عدة دورات في سوق المدينة، والأطفال يعيرونها قائلين بفرح وتسلية: «يا الملحفة بالحفاء، حتى تكون عبرة لغيرها». تلك هي العين التي رأت فيها الطفلة زهور أحوال مدينتها، حيث تصبح البنات دون العاشرة مشاريع نساء، وحيث الحلم الوحيد المتاح هو الرجل، الفارس والمنقذ.

ومن أجله، تمنع البنات من الخروج ومن التعليم ومن اللهو الطفولي لتبدآ في إتقان مهام النساء، الطبخ والنسيج والتزيين وغيرها.

رأت البنت النابهة الحرف اليدوية التي تشتهر بها قسنطينة تكاد تتحول إلى تجارة كاسدة، بعد أن وفدت على البلد تجارة جديدة ومفاهيم جديدة من الغرب المحتل لبلادهم «تتغلغل في واقعهم رغما عنهم، حضارة جديدة، كل خطوة تخطوها كانت على حطام وأشلاء صرح قديم من الفكر والثقافة. لكن فنون قسنطينة قاومت أشد المقاومة، حيث صمد نقاش النحاس، والصباغ، والدباغ، والحراز، وطراز المخمليات، لتصبح الأغنيات الوطنية الممنوعة وشعارات الحرية خيوطا حريرية ناعمة تزين برانيس العرسان وأحذية العرائس وطرابيش الأطفال يوم الختان».

لقد رزق والدها بـ5 بنات، ولم يتذمر أو يندب حظه. وعندما بلغت التاسعة، رأته يجمع التبرعات في عيد الأضحى لصالح إخوانه في فلسطين، فسألت والدتها عن مكان فلسطين هذه، فقالت لها إنها بلاد المسلمين التي يحاول اليهود الاستيلاء عليها, وتعجبت وعادت تسأل: «اليهود؟ وهل لهم بلاد أخرى غير قسنطينة؟».

كان اليهود في مدينتها جيرانا وأحبابا، تخرج مع شقيقتها لتلعب مع أطفالهم، ومنهم أنريكو ماسياس، المغني الذي سيصبح شهيرا في فرنسا بعد ذلك. لم يكن يفرق بين يهود الحي ومسلميه لغة ولا لباس ولا عادات. وكانت زهور تفرح حين تختارها جارتهم مدام زقزيق لتشعل، بالنيابة عنها، عود الكبريت تحت قدر الطبخ، يوم السبت الذي يمتنع فيه اليهود عن إشعال النار.

تتطلع الطفلة إلى بيوت الفرنسيين الأنيقة، حيث الكلب يأكل في الحديقة من إنائه الخاص، وحيث لكل فرد غرفته، وتتذكر أن في عائلتها 7 يأكلون في صحن واحد وينامون في غرفة واحدة. ومن دون شعور منها، كانت تضغط على جرس المنزل الأنيق وتجري هاربة يلاحقها نباح الكلب المدلل. وذات يوم بعد سنوات طوال، بينما كانت عائدة من احتفال رسمي تسلمت فيه وسام المجاهد، ذكّرتها إحدى شقيقاتها بتلك الأفعال الطفولية، وأرجعتها إلى النقمة على الأجانب، وبالتالي على المحتل، وهو السبب فيما كانوا يعانونه من فقر وجهل وحرمان.

«في الربيع، حين تتوسع دائرة الجمال والعطر وتتكوم قناطير الزهر المقطوف في أسواق قسنطينة تتسابق النساء إلى اقتناء ما يلزمهن منه، لتقطيره في أوان خاصة وتعطير القهوة به في وقت الأصيل. إن قهوة الأصائل في قسنطينة أكثر أرستقراطية من احتساء شاي الساعة الخامسة عند الإنجليز».

لقد أراد لها طموحها أن لا تكون أقل من غيرها، وأن تستفيد من كل فرص الحياة. وهي تعلمت القراءة والكتابة في جمعية التربية والتعليم، إحدى ثمرات نشاط الإمام عبد الحميد بن باديس الذي يحفظ الجزائريون أفضاله. وكانت الجمعية مدرسة مختلطة للتلاميذ من الجنسين، يسبق الهدف التربوي فيها الهدف التعليمي، وتراعي العادات المحافظة في تربية البنت، من جهة، ولا تحرم نصف المجتمع من التعلم، من جهة ثانية. وكان بن باديس، قبل أن تعاجله المنية، قد وضع خطة لإرسال بعثة من طالبات المدرسة لإتمام الدراسة الثانوية في «دوحة الأدب» في دمشق. وهي مؤسسة تربوية أشرفت عليها الأميرة عادلة بيهم، إحدى حفيدات الأمير عبد القادر الجزائري. وتتوقف المؤلفة طويلا عند المعلمين الأوائل والأساتذة والعلماء الذين درست على أيديهم وهي صغيرة. وكان يحدث أن تلتقي بهم، بعد عقود، وقد أصبحت في مراكز مرموقة، فتنحني لهم وتتذكر تفاصيل السنوات الصعبة من مقارعة الاستعمار الفرنسي للحفاظ على اللغة العربية وعلى الهوية الوطنية.

تتطلب كتابة المذكرات الشخصية الصراحة مع النفس ومع القارئ، حتى في القضايا الخاصة. وتقول المؤلفة إنها تزوجت في سن الـ18 من زوجها الأول الذي رزقت منه بولدها الوحيد. وتكشف أنها طلبت الطلاق، بمنتهى الهدوء والإصرار، عندما اكتشفت أن الزوج قد أخفى عنها وجود زوجة أخرى له. وفي تلك السن ذاتها، وفي غرة شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، سمعت زهور الخبر الذي قلب كيان أهلها كلهم. لقد اندلعت ثورة التحرير. وغداة الاستقلال، التقت بزوجها الثاني الذي كان سليل أسرة مجاهدة من بسكرة، رآها في اجتماعات لجنة الثقافة وأعجب بها. وأخذت وقتها في التفكير قبل أن تكرر التجربة وتوافق على الرجل الذي سيلازمها نصف قرن من الزمان.

كانت تعمل في التعليم، ومن صفوف المدرسة نفذت مهماتها النضالية الأولى في جبهة التحرير، وكان المراسل الذي ينقل لها التعليمات طفلا في العاشرة، يدعى حمّو، يتسلل إليها من بوابة المدرسة، بعد الدوام، ويسلمها بيانات دعم الثورة لتوزيعها على الأنصار. لكن تفاصيل العمل السري لم تكن طيبة كلها، فقد لقيت المجاهدة الصغيرة أشكالا من المعاملات وردود الأفعال التي تقول إنها لم تتعود عليها، من قبل. «تعرضت للتوبيخ، والمدح، والوشاية، وحتى الغزل والملاحقة». وقال لها أحد المسؤولين إنها لا تصلح للمهمات في العاصمة لأن لغتها الفرنسية ليست بمستوى إجادتها العربية. وكان الشباب يدخلون السجون ويُعذبون ويحكم عليهم بالإعدام ولا يعرف أحد، لماذا عاشوا وكيف غابوا.

وفي تلك الأيام المبكرة من النضال شعرت زهور أنها تصغر ويصغر كل ما تقوم به أمام سر كبير يكشف عن نفسه، يوما بعد يوم.

بعد الاستقلال، وفرت لهم الدولة ظروف الالتحاق بالدراسات الجامعية للمجاهدين الذين أوقفوا دراستهم بسبب الثورة. وتروي أن أحد رفاقها المجاهدين قال لها وهما يتحاوران في مدرج الجامعة بمعهد الأدب العربي، إن المرأة قامت بدورها في العمل السري خير قيام، وعليها اليوم أن ترتاح ليخدمها الرجل ويرد لها الجميل. وعلى الرغم من النية الحسنة للرفيق، شعرت زهور بأنه يعتبر «مساهمة الجزائرية في الثورة مثل دين منها للرجل، سلفة يردها لها بعد التحرير. إنه يريد أن يحتكر لنفسه حب الوطن والتوق للحرية وكل الأشياء الجميلة في الوجود».

رفضت زهور أن ترتاح في بيتها، ومضت تكتب وتحاضر وتنشر القصص والروايات وتتدرج في المواقع وتسافر لتمثيل بلادها في العشرات من المؤتمرات العالمية وتلتقي شهيرات النساء في القرن العشرين. ففي يوم من أوائل 1982 استدعاها الرئيس الشاذلي بن جديد ليبلغها بقرار تعيينها وزيرة، وليقول لها إنها ستدخل التاريخ. وخرجت من عنده وهي «تثرثر في داخلها. هذه مصيبة. هذا غير ممكن. كيف أنجح في هذه المهمة الصعبة؟ إن ذلك سيكون حتما على حساب أسرتي».

وبعد الوزارة بسنتين، انضمت إلى اللجنة المركزية للحزب، وقال لها الرئيس، ثانية: «ستدخلين التاريخ». لكن الريادات والمناصب خلقت لها أعداء وحسادا. ومن بين مئات المواقف الصعبة، ظلت حادثة معينة تجرحها على الرغم من مر السنين. فقد أتم ولدها الوحيد دراسته في أميركا، واقتصد من منحته الدراسية، واشترى سيارة قبل العودة إلى الوطن. ثم حدث في أحد اجتماعات مجلس الوزراء أن الرئيس الشاذلي كان عصبيا ومتوترا جدا، وقد وجه نقده للجميع قبل أن يسأل: «كيف تسمحون لأبنائكم بإدخال السيارات الفخمة وأنتم مسؤولون أمام الشعب؟».

وأدركت زهور ونيسي أنها المعنية بالملاحظة. هل تبتلع الملاحظة؟ هل ترفع يدها لتطلب الكلمة وتدافع عن نفسها؟ لم تفعل. لكن الغصة ما زالت في حلقها وقد حان وقت تفريغها في المذكرات في فصل بعنوان «كم في السجن من مظاليم».

إنها مذكرات امرأة مثابرة وذكية، لم تكن قديسة ولا شهيدة، عملت بإخلاص لتحصل على ما تظن أنها تستحقه وعاشت حياة لم تتح سوى للقلة من العربيات. وهي تنهي كتابها بالقول إن الإنسان يخطئ عندما يتحرك ويعمل ويعيش ويتعامل مع الآخرين. والمهم أن يبتعد عما هو أكبر من الخطأ. عن الخطيئة.