متحف مفتوح في الهواء الطلق يؤرخ لبلدة شقرا اللبنانية

3500 صورة تبر الماضي الإنساني وأسراره

مجموعة من شخصيات شقرا الراحلين
TT

في شقرا، تلك البلدة الجنوبية التي تستلقي على كتف وادي الحجير، تنتعش الذاكرة القروية الأصيلة بتراثها الضاربة في قدمها عبر متحف يجمع بين حناياه صورا تختصر الماضي وتؤرخ لتاريخ غابر يعرفك على أصالة القرية في لحظات.

إنه متحف «أبو الفكر»، الذي أراد صاحبه أن يقدم من خلال الصور رحلة استكشاف التراث الإنساني (على حد تعبيره)، فينبش أسراره ويكشف أخباره ويجيب عن تساؤلات لطالما كانت تؤرق كل طامح إلى استكشاف الأصالة.

محمد العلي الرجل الستيني الذي طلق العمل باكرا، مكرسا وقته في جمع مئات الصور، ليهندسها في إطار، ثم ليعرضها مجسدا من خلالها تراث قريته «شقرا» بكل ما تحتويه من أصناف وألوان.

ويؤكد العلي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «الذاكرة تخوننا، وغالبا ما نطمس تراثنا بجهلنا، والتراث هو المستقبل، أبيت إلا أن أجمع الصور ذات المغزى التاريخي، أجمع كل ما تلتقطه عيني من صور قروية مرمية من هنا وهناك، وأطرق الأبواب بحثا عن صورة قديمة وأخرى تراثية».

كل صورة من صور متحفه الذي أقامه للعامة في الهواء الطلق، وعلى مجموعة من جدران الدكاكين والمحال التجارية، تحكي حكاية ضاربة في أعماق التاريخ، وتشع ببريق زمن قد مضى، والتراث يسرد نفسه. فهنا امرأة تخبز في التنور، وهناك رجل يحرث أرضه بالفدان، وهناك أطفال في بركة، وإلى جانبهم شبان في حقول التبغ وغيرها وغيرها.. وتطول الصور التي تؤسس لذاكرة مكان وتاريخ أجيال في المعرض. وبما أن الذاكرة تخوننا، لذلك استمر في مسيرته التراثية على الرغم من كل ما سمعه من عبارات استهزاء الناس به وبما يقوم به، ولم يردعه سؤالهم المتكرر «ماذا تريد منهم؟».

موقف زاده إصرارا على جمع المزيد بإرادة لا تهدأ ورغبة في التفوق لا تستكين، وهذا الإصرار ولّد حالة من المثابرة والمكابرة عنده على خلق نمط جديد من عالم حكايات التاريخ، حتى جمع ما يزيد عن 3500 صورة تؤرخ لسير وتاريخ وجغرافيا شقرا، إضافة إلى أهم شخصياتها التاريخية.

وبالعودة إلى متحف «أبو الفكر» الإنساني الذي ولد عام 2012، نجد أنه يقدم رصيدا غنيا من المعارف وجواهر الكلمات، حيث إن كل صورة تحمل قضية فيها من أدبيات التراث القروي ما يغني الزائر وما يشبع عطش الحائر، فتجد الألقاب وصياغة الأسماء والمزارات السياحية في بلدته بطريقة فكاهية، وفي ذلك يوضح: «وضعت الألقاب في خانة الموروثات، اللقب يلازم الشخص أبدا»، ذلك أن شقرا تتضمن أكثر من 90 لقبا (جمل، أسد، نمر...). وإذا تصفحت أكثر تجد «بوفي ستي الختيارة» على طبق من مطبخ أيام زمان (أبو شاشات، أبو خسة، بقلة، زغلول، كوساية وغيرها).

وبروح لا تخلو من الدعابة والمرح يرى أن شقرا تمثل أكثر العالم، حيث إنها تجمع النصف تقريبا، ففيها أسماء من آسيا وأفريقيا وأوروبا.

ولا ينسى أبو الفكر ما خفي من معالم شقرا السياحية، مستمرا بروحه «النكتجية»: «عندنا معالم سياحية خالدة: جل الكشكي، معلم مشهور وهو كناية عن مكب، مزبلة سيفو...». كل ذلك جعل من «أبو الفكر» شخصية متفردة متميزة ومحط إعجاب ومثيرة للاهتمام في منطقته. ويشدد أبو الفكر على أنه يحرص أن يقدم نوعا جديدا من الإبداع والتفرد فيقول: «أنا أحب التميز والتفرد ولا أريد تقليد أحد، أميز نفسي بفن لم يطرق بال أحد».

من هنا نستنتج السبب فيما يقوم به «أبو الفكر»، وهذا ما تلاحظه جليا، بحيث لا يمكنك وأنت تستمتع بالنظر في صوره، إلا أن تستشرف الماضي بطريقة قريبة من القلب تحاكي الحاضر وتشهد للمستقبل.

يعتبر أبو الفكر نفسه حارسا على تراث شقرا، فيجمع صوره ويخزنها ليعرضها ويعبر من خلالها بشقرا من مرحلة إلى أخرى، كان هذا حافزه الذي دفعه ليقيم أول معرض صور له «مواويل الزمن المسافر» الذي ضم 275 صورة جماعية و500 صورة فردية.

وردا على سؤال يجيب: «المعرض كان بمثابة بوابة الدخول إلى صور الناس، الذين بدأوا يقدمونها لي بعد حالة الازدراء التي راودت فكرتي بداية، وبعدها بدأت تتنامى القصة، وبنيت قاعدة مجتمعية أثبتت جدواها».

هذه القصة فرخت مولودا جديدا مع «ضفاف الذاكرة»، الذي يقول عنه إنه أبعد من صورة فنية، ففيه تأريخ لأول فرن، أول تنور، أول داية.

ثم كان مهرجان أبو الفكر للتراث الإنساني، الذي يضم 1200 لوحة متنوعة الأفكار. يفتخر أبو الفكر لأنه استطاع أن يقدم نموذجا جديدا من العمل الفني، نال استحسان الجميع، بحيث كان بوابة للعبور إلى ائتلاف الأجيال في فكر بعيد عن «افتراضية الصورة»، ولأن ما يقوم به «رسالة فوق حصار الاندثار»، تراه لا يثنيه تعب ولا يقصر في عمله ملل، بل أراد من الصورة وبحق أن تكون الوسيط بين جيلين تعبر عن رسالة خالدة تتناقلها الأجيال وتتوارثها عبر الزمن.

في الختام، يمكن القول إن أبو الفكر قد نجح في عرض فكرته وتحقيق رغبته، مع أنه لم يكتب لها الانطلاق خارج شقرا، لكن إيمانه يؤكد له أن يوما ما ستنشد وتنطق كل قرية بتاريخها عبر صورها.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: إلى متى سيبقى جيل الشباب منقطعا عن ثقافة الإرث الحضاري في ظل هيمنة ثقافة العولمة والـ«فيس بوك» والـ«واتس آب»؟