«شيخ الساعاتية» في الخرطوم: 50 عاما في ضبط الوقت

قال: طردني نميري من السكة الحديد.. وأصبحت استشاريا في إصلاح ساعته الذهبية

عبده منهمك في إصلاح الساعات («الشرق الأوسط»)
TT

لفت انتباهي بانهماكه فوق طاولته الخشبية الصغيرة، وقد حشد عليها عشرات الساعات ومئات من قطعها الصغيرة مع بعض من المفكات الرفيعة، وبعد أن يضع شريط كاسيت للفنان السوداني الراحل إبراهيم الكاشف، ينكب «شيخ الساعاتية» على طاولته ليغوص في عوالم الساعات، يبحر في أحشائها بأنامله المبدعة وبحرفية عالية تتلمس العطل، وتعيد ضبط «تكتكاتها» مع نبضات قلبه، الذي أخلص لمهنته وأحبها منذ أن كان طفلا في السادسة من عمره.. حيث بدأ في مساعدة والده في صيانة الساعات. إنه «شيخ الساعاتية» عثمان عبده أحمد الذي يشارف اليوم السبعينات من عمره، وما يزال يمارس عمله «ساعاتيا» منذ خمسينات القرن الماضي في محله الشهير بالسوق العربية وسط الخرطوم، ولا يزال يفخر بصنعة آبائه.

يقول عبده إنه ورث المهنة عن أبيه قبل أكثر من 50 عاما، إذ إنه بدأ العمل في هذه المهنة عام 1955 في مدينة سنجه، وتخصص في صيانة الساعات، خاصة السويسرية.

ويعتبر دكان عبده الساعاتي من معالم مدينة سنجه التاريخية، وكذلك محطة «عبده الساعاتي» في مدينة بابنوسة، فوالده عمل في الكثير من مدن السودان، وإليه يعود الفضل في نشر هذه الصناعة. كما أن أخته الصغيرة كانت ساعاتية، وكانت تفوقه مهارة قبل أن تنتقل إلى رحمة الله، ولقد تعلم والده هذه الحرفة من ضابط هندي حين كان يعمل معه في الجيش إبان الحرب العالمية الثانية.

ويواصل عبده حديثه قائلا إن هذه المهنة جمعته بالكثير من المشاهير ونجوم المجتمع، وخلقت له علاقات كثيرة جعلت من دكانه في الخرطوم ملتقى لهم؛ إذ إن الرئيس السوداني الراحل جعفر محمد نميري كان يزوره في بعض أمسيات السبعينات، وكان يقوم بصيانة ساعته «الأوميغا»، وكانت عليها صورته وجزء منها مصنوع من الذهب. وكان دكانه في ذلك الزمان في «عمارة أبو العلا».

ويذكر عبده أنه ذات مرة جاءه الفنان السوداني الراحل عبد العزيز محمد داؤود بساعته للصيانة، وقال له إنه موصى عليه من قبل الرئيس نميري لتصليح ساعته التي توقفت عن العمل.

وقال عبده إن الفنان السوداني عبد الكريم الكابلي يحترم الساعات الكلاسيكية، وإنه ذات يوم أحضر ساعة جيب أثرية لإصلاحها له.

ويقول عبده في حوار مع «الشرق الأوسط» إن أول ساعة قام بإصلاحها كانت من ماركة «نوسينا» وتقاضى أجرا 25 قرشا لقاء إصلاحها، وكان الأمر حدثا وسط الساعاتية وقتها؛ لأن تلك الساعات كانت صعبة الإصلاح. ويضيف: «إن حصولي على هذا الأجر الكبير وقتها (عام 1955) جعلني لا أنام تلك الليلة».

ويقول عبده إن الساعة ليست جماليات وزينة فقط، فهي قيمة لضبط إيقاع الحياة، وبالتالي ضبط الزمن، وبمجرد انفراط هذا الانضباط تفقد الحياة قيمتها، فالجيل السابق كان أكثر انضباطا، أما الجيل الحالي فالساعة عنده إكسسوار.

وأضاف أن الساعات في السابق، وخصوصا السويسرية، كانت مصنوعة من خامات جيدة؛ لذلك فهي متينة، أما الآن فإن هناك الكثير من الساعات الرخيصة التي لا تعدو كونها نفايات إلكترونية.

وأجود الساعات، حسب حديثه، هي «الرولكس»، «الأوميغا»، و«زوديك»، و«باتك فلب»، و«رومر»، و«جوفيال»، و«وست آند»، و«لوسينا».

ويؤكد عبده أن كل الساعات السويسرية جيدة، ويقول إن التكنولوجيا لم تؤثر على ساعة اليد، وستظل موجودة رغم منافسة الساعات الآن في الجوال والتلفزيون والكومبيوتر وغيرها.

كما يحكي عبده ذكرياته مع الرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري الذي قال: «إنه كان أكثر اهتماما بالساعة والزمن، وكان يبعث لي معارفه وأصدقاءه بمذكرة منه، ويمنحني عشرة أضعاف ما أطلبه مقابل صيانتي لساعاته (الأوميغا)». وأضاف: «الرئيس نميري طردني من السكة الحديد عندما كنت عاملا، وفي نهاية المطاف أصبحنا أصدقاء، كما عملت مثل استشاريا متخصصا في إصلاح ساعته (الأوميغا)».

وقال عبده: «إن المصانع الأوروبية كانت تنتج حسب الذوق السوداني، فصنعوا لنا ساعة الجيب خصيصا، كما صنعوا لنا ساعة (هنا أم درمان)». ويضيف أن ساعة الجيب كانت جزءا من الهوية السودانية، حتى الخياط يصنع لها مكانا خاصا، ويسمى «جيب الساعة». كانت ساعة الجيب تكمل اللبس القومي مع حذاء «المركوب» المصنوع من جلد النمر (حذاء سوداني شعبي) وملفحة.. لكن في العصر الحالي تغير الأمر.

ويذكر عبده أن «الإنجليز وضعوا في الخرطوم 4 ساعات كبيرة في مبانٍ محلية أم درمان، والبوستة، والقصر الجمهوري، ومدرسة وادي سيدنا، وهي ساعات على غرار ساعة (بغ بن)، ومنها 3 ساعات لا أعرف أين ذهبت الآن (القصر، ومحلية أم درمان، والبوستة أم درمان).. ولكن ساعة محلية أم درمان استبدل بها أخرى إلكترونية ثمنها 20 ألف دولار عملت لمدة 5 سنوات فقط وتوقفت بعد ذلك، وحتى الآن متوقفة».

وقال عبده إن أقيم ساعة وأغلاها عنده ساعة والده التي أهداها له عام 1960 وماركتها «رومر»، وهو يحتفظ بها حتى الآن.

ويختتم عبده حديثه بأن ابنته التي تخرجت في كلية الطب تعمل ساعاتية، ولكن لصيانة ساعاتها وساعات صاحباتها فقط، أما ابنه فهو طالب كلية الهندسة، ويعمل معه خلال الإجازات، ويتمنى أن يحافظ أبناؤه على هذا الإرث؛ لأن اسم جدهم ووالدهم مرتبط بالساعة.