الفنون الفقيرة تحصد جوائز وتنتصر في بينالي الشارقة

«الشباشب» حين تصبح طوق نجاة في زمن العولمة

«الانجراف من خلال المراكب الشراعية» عمل للفنان الياباني فوميتو أورابيه الذي فاز بجائزة المشاركة المتميزة
TT

زاحمت الفنون الفقيرة بوسائطها التعبيرية البسيطة الأعمال الضخمة في بينالي الشارقة 11، واستطاعت - بجدارة - أن تنتزع منها أكثر من جائزة. ولم تسعف عمليات التحضير والبناء المكثفة والاعتماد على خامات كثيرة، كالزلط والحجر والحديد والرقائق المعدنية والقماش والمرايا والزجاج والمطاط والبلاستيك.. وغيرها، في انتشال هذه الأعمال الضخمة من الترهل والمبالغة والمثاقفة، مما زاد الإحساس بالنزعة الاستهلاكية في الفن. وهي نزعة مؤقتة تنحاز لثقافة المناسبات والمعارض أكثر من الأشياء الدائمة، لذلك ينتهي العمل بانتهاء الحدث نفسه.

وبينما ركزت الأعمال الضخمة على تجسيد أفكار بعينها، بمضامين سياسية أو اقتصادية أو فلسفية، وغيرها مما يهتم بالمحيط الخارجي للإنسان، لعبت الأعمال الفقيرة على حياة الإنسان الداخلية البسيطة، بداية من الميل إلى اللعب والحنين للحظات الطفولة وفوضى الاضطرابات التي نشهدها في الحياة اليومية، وجمال الأشياء الاعتيادية والمهملة التي حين نحولها إلى رموز ودلالات نستخلص منها معنى وجودنا وأحلامنا وأشواقنا، لذلك كان التواصل يتم معها عبر المشاهدة بشكل تلقائي، على عكس الأعمال الضخمة التي قد يحتاج بعضها إلى خرائط وبوصلات لفك شفرات ومسارات العمل.

يضاف إلى ذلك أن معظم الأعمال الفائزة بجوائز البينالي تنتمي بخاماتها ووسائطها ورؤاها الفنية إلى هذه النوعية من الأعمال الفقيرة، خصوصا عملي الفنانين المصريين وائل شوقي «أقوال مأثورة» و«خلايا صوتية: أيام الجمعة» لمجدي مصطفى.

في واحد من هذه الأعمال الفقيرة، يستقبلك عمل الفنان الياباني فوميتو أورابيه بعنوان «الانجراف من خلال المراكب الشراعية»، الفائز بجائزة المشاركة المتميزة في البينالي. ينتمي العمل إلى فنون التركيب ويمتد على مساحة حجرتين، في الحجرة الأولى تستقبلك خريطة كبيرة للعالم موضوعة على طاولة، وعلى الجدران تتناثر أوراق قديمة ورسوم لمناظر طبيعية، وعلى عتبة الحجرة الأخرى يستقبلك طابور من المراكب الشراعية، هي في الحقيقة عبارة عن مجموعة من «شباشب» الحمام البلاستيكية، قام الفنان بتحريف صورتها المادية، لتتحول بغلالات بسيطة من القماش إلى أشكال كروكية لمراكب شراعية. ولا يتركك الفنان تستمتع بلعبة المراكب هذه المصفوفة على الأرض والمكونة من أشياء مهملة، بل إمعانا في المتعة يأخذك معها في فضاء شبه واقعي، وذلك عبر شريط فيديو بالحجرة الثانية، يظهر فيه مجموعة من الصبيان يلعبون في البحر، ومع المؤثرات الصوتية الشفيفة والحادة تطفو على السطح المراكب الشراعية (الشباشب) وقطع من الخشب. وينتهي شريط الفيديو بملامح الصبيان وهي تنعكس ببراءة شديدة على صفحة المياه، بينما تتأرجح المراكب الشراعية على صفحة الماء وكأنها طوق نجاة، من عالم شديد الجهامة يقمع طفولتنا ويورثنا الضجر كل يوم، تحت شعارات وفلسفات ومسميات باسم العولمة، يرى العمل أنها تعمل على وقف التدفق الحيوي للإنسان، حيث قوام كل شيء في العالم يكون في حالة تدفق.

على هذا المنوال، اتخذ الفنان الكاميروني باسكال مارتين تابو من خامات الطباشير والدبابيس (دبابيس الطرح) والفحم قواما لعمله المكون من أربع وحدات تشكيلية كبيرة الحجم، وفي سياق رؤية تمزج بين اللعب والتعلم، يؤكد الفنان أن بداخل الأشياء إمكانيات وطاقات لا مترامية الأبعاد. تجسدها وضعية الطباشير والفحم الأسود في صفوف أفقية ورأسية، لتؤلف في النهاية نسيجا نغميا مزدانا برسوم، تومض فيه الدبابيس من حنايا الطباشير، أو من كتلة مسطحة ملتصقة بسطح التكوين. ويشير العمل إلى أن الفن هو فكرة الإنسان باعتباره صانعا وفنانا، كما أنه قرين البساطة، كلما نظرت إلى جوانب المجتمع بصورة ثابتة ومتشابكة.

وفي شريط فيديو بالأبيض والأسود لم تتجاوز مدته ست دقائق، تكتب الفنانة التايوانية شارواي تساي كلمة «آه» بالحبر الأسود على الماء، حيث يعتبر هذا المقطع اللفظي المنفرد صوتا مقدسا لدى الكثير من الديانات، فهو موجود في كلمة الله، آمين، هللويا، آميتابا. ومع تراكب الصورة المكتوبة بظلالها الرمادية المخففة والضاربة في الحلكة أحيانا أخرى تترامي همهمة في الخلفية الصوتية للفيديو لأشخاص تردد بشكل متقطع «آه» وبأصوات من مختلف الديانات. على إثر هذا يرتج الماء ويهتز في شكل شبكة من الذبذبات الصوتية، ورويدا رويدا يذوب الشكل المادي للحروف، بعد أن أخذك في رحلة صوفية أيقظت روحانيتك، وجعلتك تتأمل نفسك بمحبة طفل.

ولم تخلُ هذه الأعمال الفقيرة رغم بساطتها من ملمح فكاهي ساخر، فأحد الفنانين استولى على باقة من أشجار النخيل وسيجها بسور من الزجاج ووضع في داخلها مجموعة من الكراسي الخشب، والطريف أنه منع الزوار من الدخول إلى واحته الغراء، والاكتفاء بالفرجة من الخارج. وفنان آخر على مقربة منه ثبت في الأرض لعبتين من لعب الأطفال التي يرتادونها في النوادي والملاهي، مؤكدا أنه كسر بهما حيادية الفراغ والمساحة. ولا أعرف حتى الآن هل امتطى طفل من رواد البينالي هاتين اللعبتين أم لا، وهل ابتسم، وهل شعر بوخز من المرح.. لكم أتمنى ذلك!