أزهار ناجية محاجي تتفتح في مونبارناس

الرسامة المغربية وأستاذة الفن الزائرة تعرض لوحاتها في غاليري «كلود ليمان» بباريس

الحسي والروحي يتعانقان في لوحاتها
TT

بين الصويرة في المغرب وباريس، تتوزع حياة الرسامة ناجية محاجي مثل بندول يتنقل ما بين الوطن الأول والمكان الذي يصقل الموهبة. ولوحاتها المعروضة في صالة صغيرة في حي مونبارناس، حاليا وحتى أواسط الشهر المقبل، هي نتاج تكوينها الثقافي المزدوج وثمرة حساسية شرقية خاصة في التعامل مع الضوء واللون. ويكفي أن يعثر أي فنان على «موطئ جدار» للوحاته في هذا الحي المفعم بالتاريخ وبأنفاس كبار الفنانين، حتى يشعر بأنه ليس معزولا في هذا العالم؛ بل هو غصن في شجرة ثقافية وارفة.

تنضم ناجية إلى لائحة الفنانين العرب المهمين الذين تتبنى صالة «كلود ليمان» تقديمهم، منذ سنوات وبدأب يثير الإعجاب، لجمهور فرنسي أو متعدد الجنسيات. وهي ليست بالطارئة أو الجديدة على الساحة، بل هي أستاذة زائرة، منذ سنوات طوال، في المعهد العالي للفنون الجميلة في باريس، هذه العاصمة التي كانت قد قصدتها لدراسة الفن التشكيلي، أواسط سبعينات القرن الماضي. وفي «السوربون»، حصلت، أيضا، على شهادة جامعية في المسرح أتاحت لها فرصة العمل مع المخرج البريطاني المعروف بيتر بروك ومع فرق «ليفينغ ثياتر» الطليعية المتفتحة على الثقافات التي تتجاوز سوار القارة الأوروبية. وقد لفتت اهتمامها، أيضا، حركات مسرح «النو» الياباني واستلهمت في تخطيطاتها دوران الدراويش في طقوسهم الصوفية.

لم تكن ناجية محاجي فنانة بصرية فحسب، إذا جاز التعبير، بل صوتية أيضا. وهي قد شاركت في تجارب رائدة لعروض مع طلبة يدرسون الموسيقى الحديثة، وكانت تواكبهم بالرسم على مساحات كبيرة من الورق الحساس للذبذبات. لقد اهتمت ببصمة الأصوات، وكان حفيف الورقة مثلا، بالنسبة لها، جزءا مكملا للأشكال المرسومة عليها. وفي الفترة نفسها توسعت تجارب الفنانة المغربية فراحت تتردد على مجموعة «نساء الفن» ونشرت رسومها في مجلة «ساحرات»، وكانت عبارة عن متواليات بالأبيض والأسود تندرج في باب ما تطلق عليه اسم «التجريد الحساس».

ومع أواسط الثمانينات، بدأت ناجية بالتردد على مدينة الصويرة المغربية، في رحلات سنوية هي أشبه بالترحال البدوي الموسمي، حيث تنكب على العمل لعدة أشهر متواصلة، مستفيدة من امتياز الانتقال بين ثقافتين. وهناك في المغرب، خطر لها أن تستلهم أسطورة «إيكاروس» الإغريقية في سلسلة من الأعمال عن تلك الشخصية التي ترمز للحرية والمغامرة والاندفاع. ألا تروي الأسطورة أنه وضع لنفسه جناحين ليطير لكنه احترق لأنه حاول التحليق قريبا من الشمس؟ كانت لوحاتها فضاءات واسعة تحمل انطباعات لحركات الجسد مع أشكال وقوالب هندسية. ودائما، كانت الهندسة حاضرة إلى جانب الرسم في نشاطها الفني.

في تسعينات القرن الماضي، خطت الفنانة خطوة أبعد عندما عبرت، بطريقتها الخاصة، عن استنكارها لمجازر التطهير العرقي التي تعرض لها سكان البوسنة المسلمون، فقامت بتشكيل سلسلة من القباب التي تكشف عن ميلها للتلاقح الثقافي في العمارة، منطلقة من الفنون الإسلامية. وفي هذا الصدد تقول إن القباب بدأت تظهر في لوحاتها منذ 1993، بعد تدمير الإرث الثقافي لمسلمي يوغوسلافيا السابقة، ذلك أن سراييفو امتزجت في مخيلتها مع غرناطة الأندلسية، في عصرها الذهبي، بصفتها مدينة متفتحة ومتعددة الثقافات. ولهذا أرادت أن تستلهم شكل القبة، مثل تلك القائمة في «قصر الحمراء»، ثم تشتغل على شيوع هذا الشكل في الهندسة العالمية، عندما نجد، غالبا، الشكل المثمن لتمهيد الانتقال من المربع إلى الدائرة، أي من الأرضي إلى السماوي. وهي ترى أن القبة نوع من الوسيط ما بين البشري والكوني، من حيث شكلها نصف الكروي الذي هو في الوقت ذاته بهيج وروحاني. وتبدو ناجية محاجي مسكونة بفكرة المراوحة بين الحسي والروحاني، وهي تنظر للخط الممتد على الورقة نظرة فلسفية باعتباره علامة زمنية تشبه تلك الدوائر التي ترتسم، على مر السنوات، على جذوع الشجر لتؤرخ لأعمارها. إن الخط، أو التخطيط، هو أساس رسومها الكبيرة التي تريد لها أن تكون كسحبة الطبشور الطالعة من حركة جسمانية وعقلية، في آن. إن لوحاتها هي «تشكيلات انسيابية تسعى لأن تقيم صلة بين الكون والبشر»، حسب قولها، أي، مرة أخرى، بين الروحي والحسي.

إنها تفضل الرسم بألوان زيتية صافية على خامات كبيرة الحجم، لتعبر عن رؤيتها الخاصة للطبيعة وللنبات، لا سيما الأزهار التي تقدمها أشكالا ذات بعد تجريدي. وهي تقول إنها لا ترسم على الخامات أو الحوامل الكتانية المعدة خصيصا لهذا الغرض؛ بل على ورق المطابع وبمواد بدائية فقيرة تجتهد لتجعل منها نبيلة. وبسبب انحيازها لكل الدعوات الرافضة للعنف وللحروب، لا تتردد ناجية محاجي في الاستفادة من الإرث الفني العالمي ومحاولة ابتكار أساليب تعبيرية جديدة. ففي أثناء إقامة لها في مدريد، أنجزت أعمالا رقمية تتداخل فيها أزهارها المتفتحة مع مقاطع مكبرة من محفورة «فظائع الحرب» للفنان الإسباني غويا (1746 - 1828). إن نباتات الصويرة والفراديس الأندلسية هي ملجأ ناجية الروحي من العنف النووي.