«جوطية» الرباط.. يلتقي فيها الميسورون والمعدمون ويباع فيه كل شيء

سوق مدهشة.. تجارها يعدون الطلاق والخلافات الأسرية «فرصتهم الذهبية» فيها

جانب من «جوطية» العكاري (تصوير: منير أمحميدات)
TT

منذ 5 عقود، يبيع إبراهيم بنسيار في «جوطية» العكاري ملابس من ماركات عالمية بأسعار زهيدة. لا يمكن الجزم من أي مكان وكيف يأتي بنسيار بهذه الملابس، لكنه أصبح رمزا من رموز سوق «الجوطية» في العكاري، أحد أشهر الأحياء الشعبية بالرباط. قبل قرن من الزمان، كان هذا المكان عبارة عن أكواخ من القصدير، تقرر إزالتها وتحويلها إلى ساحة شيدت فيها متاجر صغيرة، وأصبحت هي «جوطية» العكاري.

في هذه السوق، يمكن أن تجد كل شيء وبجميع الأسعار. سوق يأتي إليها الميسورون وأصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة، وأيضا كذلك المعدمون الذين يأتون للفرجة، يتجولون كثيرا دون أن يشتروا شيئا. كان إبراهيم بنسيار يمتهن من قبل مهنة بائع الأثاث المستعملة، لكنه تحول إلى الملابس، هذه هي تقلبات «الجوطية» التي تجعل من كل الذين يعملون فيها على استعداد لتغيير مهنتهم طبقا لظروف العرض والطلب.

تعني لفظة «الجوطية» في المصطلح المغربي الأمكنة التي يباع فيها كل ما هو مستعمل «سوق الخردة»؛ سواء تعلق الأمر بمواد محلية أو مستوردة، وكلمة «جوطية» مشتقة في الأصل من كلمة فرنسية؛ «جوطي» أو «جوطبل»، وتعني الشيء المهمل.

عندما تدخل «جوطية» العكاري تصادف أشخاصا من مختلف الشرائح والجنسيات والاهتمامات. مغاربة وأجانب بعضهم من السياح. بعض الأجانب الذين استوطنوا في المغرب يزورون «الجوطية» بانتظام، هؤلاء يأتون إلى هنا، وفي ذهنهم الحصول على سلعة نادرة أو لها تاريخ وحكاية. هم لا يبحثون عن أثاث أو ثياب ومعدات إلكترونية، وإنما يبحثون عن تحف مطمورة في ثنايا أكوام «الجوطية» ربما لا تقدر بثمن. «الجوطية» من وجهة نظر زبائنها فرصة لشراء الغالي بسعر بخس. تلك هي الفكرة التي تدور في ذهن زبائن هذا المكان عند زيارتهم له في جميع الأيام، لكن مع رواج استثنائي خلال نهاية الأسبوع. في «الجوطية» يمكن أن تجد كتابا له قيمة، أو قطعة أثاث أو لوحة أو قطعة ديكور منزلية أو مكتبية، ومعدات إلكترونية وكهربائية خارج أسواقها المعتادة. القاعدة هي أن تجد سلعة لها قيمة وبسعر لا تتوقعه.

الناس هنا يتزاحمون ويتصايحون ويتساومون في جميع أركان وأزقة «جوطية» العكاري، في بعض الأحيان تعتقد أنهم يتشاجرون لكن في الواقع هم يبحثون عن سعر معقول يفترضون أنه يجب أن يقل كثيرا عن أسعار الأشياء نفسها في الأسواق والمتاجر العصرية. توجد كذلك الخضراوات والفواكه مفروشة على الأرصفة، بل وحتى فوق شوارع الإسفلت. يضع الباعة خضراواتهم، وخلال أيام الرواج يغلقون، من دون قرار، شوارع «الجوطية» أمام حركة المرور.

«الجوطية» جزء من سوق حي «العكاري»، وهو من بين أهم الأسواق الشعبية التي يقصدها زبائن من مختلف أحياء العاصمة المغربية، ومن أطرافها. ليس المكان للشراء فقط، إذ إن كثيرين يحملون إليها، كذلك بعض مقتنياتهم من ديكورات وأثاث منازل وبعض الآلات والمعدات، لبيعها لتجار «الجوطية»، وكل شيء قابل للمساومة. لا يوجد أي قانون أو قاعدة تحكم التعامل في هذا الجانب. وغالبا عندما يتحول تجار «الجوطية» إلى مشترين يهبطون بالأسعار كثيرا، على أساس أن ما سيشترونه يمكن أن لا يباع على الإطلاق. لكن عندما يبيعون السلعة نفسها، يطنبون كثيرا في مدح مزاياها، ولديهم لازمة يرددونها باستمرار: «لولا الحاجة والاضطرار لما عرضتها للبيع».

العمل في «الجوطية» حرفة مارسها كثيرون لسنوات طويلة، وبعضهم لعقود، وهناك من ورثها عن الآباء والأجداد. الهادي عدنان يبلغ من العمر 26 سنة، يقول إنه يمارس مهنته في «الجوطية» منذ 5 سنوات. وهو يعتقد أنها مهنة تعتمد على الحظ بالدرجة الأولى، إذ يمكن أن تحصل يوما على شيء قيمته غالية جدا، في حين تكون اشتريته بسعر بخس، روى الهادي لـ«الشرق الأوسط» واقعة حدثت أخيرا في «الجوطية». قال: «قبل أيام جلب أحد الأشخاص شباكا خشبيا قديما من منزل جرى هدمه لتشيد في مكانه عمارة. اشترى أحد التجار الشباك الخشبي بمبلغ مائة درهم (ما يعادل 12 دولارا). وأدرك التاجر بعد أن اشترى الشباك الخشبي قيمة الخشب الذي صنع منه، وهو (العرعار) الذي يوجد في جنوب المغرب وتصنع منها بعض قطع الديكور الفاخرة. بسبب ذلك وجد التاجر زبونا على استعداد لشراء الشباك الخشبي بمبلغ 4 آلاف درهم (500 دولار). هذه واحدة من الصدف التي تحدث في (جوطية) العكاري».

في أحد الجوانب المخصصة للأثاث المنزلي، كان أحد الباعة (رفض ذكر اسمه) يعرض صالونا صنع على الطريقة المغربية، أي بالنقش على الخشب واستعمال الزخارف المنتشرة في المغرب. يقول هذا البائع إنه اشترى الصالون من إحدى الأسر متوسطة الحال. وأوضح البائع الذي راكم خبرات تصل إلى 17 سنة في مجال بيع الأثاث المستعمل، أنه لا بد أن يترك لنفسه هامشا من الربح، وله في ذلك طريقته الخاصة التي اكتسبها عبر خبرته الكبيرة. يشرح ذلك بأنه يقنع زبائنه الذين يبيعون أثاثهم بأنه يساعدهم على التخلص من أثاث قديم، وأنهم ربما لن يجدوا شخصا يرغب في اقتنائه، فيقترح عليهم سعرا أقل مما يطلبون ويرضخون بعد مساومات طويلة، ثم يبيعه إلى زبون يحتاج إليه بسعر معقول، مع هامش ربح مناسب له.

العمل في «الجوطية» يعتمد بالدرجة الأولى على «القدرة على الإقناع». يقول البائع نفسه إن أفضل الظروف التي يشتري فيها أثاثا بسعر منخفض، والتي تشكل بالنسبة لهم «فرصة ذهبية»، حالات النزاعات الأسرية، مثل حالة الطلاق، حيث يقوم أحد الزوجين ببيع أثاث المنزل خشية أن يستولي عليه الطرف الآخر، لذلك يتخلص منها بأي سعر.

هناك كذلك شريحة تعتبر من أفضل زبائن الأثاث المستعمل والرخيص، وهم الطلاب الذين يأتون إلى الرباط من مدن مجاورة من أجل الدراسة. هؤلاء يأتون إلى السوق من أجل اقتناء الأثاث، وعادة ما يكون سكنهم عبارة عن غرفة واحدة، لذلك يقتصر الأمر على شراء سرير صغير ومكتب وخزانة للملابس.

ثم هناك فئة من زبائن «جوطية» العكاري، يأتون إليها ليس من أجل الشراء لكن لمجرد قضاء الوقت. إذ أصبح الأمر بمثابة هواية لهم، يواظبون على زيارة المكان نهاية كل أسبوع للاطلاع على جديده وما يعرضه تجار «الجوطية».