نساء يلغين «الفيتو» ويقتحمن عالم مهن الرجال

يشكلن ظاهرة لم تعد غريبة في زمننا

سميرة تصلح قطعة غيار دراجة بمعاونة زوجها
TT

تعلمت أن تكون أقوى من الهزيمة التي توعّدها بها كل من لحظ عملها؛ تعمل في مجال البناء منذ 7 أشهر وحتى اللحظة هي لا تبالي بما تتلقاه من نظرات تحمل في طياتها السخرية مرارا والتهكم أحيانا، كل ذلك نتيجة مرارة دفعتها لتحمل المشقات جعلت منها امرأة قوية في مواجهتها جميعا. إنها ربى ف. (27 عاما)، التي رفضت أن تُلتقط لها صورة وهي تحمل الرمل وتعدّ الإسمنت على الرغم من جرأتها في اختيار مهنتها.

وتسأل ابنة بلدة زوطر (جنوب لبنان) في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «حين تعجز حتى الشهادة الجامعية عن منح حاملها جواز مرور لتخطي معوقات الحياة ومطباتها؛ فما الحل؟ ألا يصبح اقتحام فتيات ونساء كثيرات عالم مهن الرجال بعد أن سُدّت في وجوههن أبواب الوظائف أمرا طبيعيا؟».

وتضيف والحسرة تغلف صوتها، على الرغم من محاولتها الفاشلة لإخفائها بين أكداس الرمل وحبات البحص المتناثرة هنا وهناك: «حين تخرّجت في الجامعة كنت أطمح إلى أن أعمل سكرتيرة على الأقل في إحدى المؤسسات، بقيت أبحث 5 سنوات لكن دون جدوى، والدي مرض وتوفيت أمي وأنا الكبرى بين أخواتي الثلاث ولا معيل لنا، وبعد أن فقدت الأمل فوجئت حين عرض علي جارنا العمل معه في العمارة بأجرة 25 ألفا يوميا».

لم تتردد ربى، لأنها بحاجة إلى العمل، وفضلت العمل بعرق جبينها، بعد أن وجدت أن الشهادة في بلد كلبنان لا قيمة لها، بحسب تعبيرها.

أن تحمل امرأة سكّينا أو ساطورا لتقطع شريحة لحم أو لتذبح عجلا، فليس هذا بالمشهد المألوف في مجتمعنا، لكن هنادي ص. (31 عاما) جعلت من اللامألوف واقعا معيشا، فهي تعمل جزارة (لحّامة) منذ 5 سنوات، وقد واجهت كلّ التحديات والانتقادات، وكسرت قيود الواقع.

وتعترف ابنة بلدة حاروف (جنوب لبنان) قائلة: «كنت الساعد الأيمن لزوجي حين كان ميكانيكيا، وكنت أعمل معه في إصلاح أعطال السيارات، وحين فتحنا (الملحمة) كذلك، ولكن زوجي مريض اليوم، فهل أقفل باب الرزق؟ طبعا لا».

وردا على سؤال تؤكد أن المجتمع لم يتقبلها بداية حتى أقرب المقربين منها؛ ابنها البكر قد انتقدها، إلا أنها وبفعل إرادتها المتينة وتصميمها الصلب استطاعت إقناع الجميع بأن ما تقوم به «غير مخجل»، كما أنها، وانطلاقا من عوزها وحاجتها، خلقت حالة جديدة ومتميزة في المجتمع، وفرضت وجودها عليه، وأجبرت الكل على احترام مهنتها.

ولأنها ليست الحالة الاستثنائية، فقد استطاعت هنادي أن تلتقي مع غيرها من النساء اللواتي يمتهنّ مهنا شاقة ومتعبة، ليشكلن معا ظاهرة بارزة بدأ مجتمعنا يتلمسها ويتقبلها شيئا فشيئا، وإن كانت بخطى خجولة وبترقب متريث، لكنها مرجحة للارتقاء، يوما بعد الآخر.

الجرأة النسائية لا تتوقف عند كل من ربى وهنادي، إذ نجد نساء أخريات اقتحمن عالم الرجال، مدفوعات بشغف الفضول وراغبات بالتفوق عن سابق إصرار وتصميم، فمارو دخلت عالم «الحلاقة الرجالية»، وتملكتها الجرأة لتفتح صالونا خاصا يعنى بالرجل؛ قص الشعر وحلاقة الذقن وتنظيف البشرة، حتى أضحى هذا الصالون منافسا حقيقيا للصالونات الرجالية الأخرى.

وتشدد مارو من داخل صالونها الذي يحمل اسمها على أن هذه المهنة «عزيزة على قلبها»، وهي تحاول إثبات جدارتها وتفوقها أمام كل من راهن على فشلها، وفي ذلك توضح: «لم يعد هناك من مهنة ترتبط حصرا بعالم الرجال، لقد تمكنت من أن أقيم مساحة حرة للمرأة في هذا المجال».

وكما مارو، فإن سميرة طاهر حسن نموذج حي عن النساء اللواتي يحاولن إلغاء «الحصرية» الذكورية في بعض المهن، فهي امرأة تحدّت أعتى «العضلات»، وانغمست في شحم تصليح الدراجات النارية منذ 35 سنة، على الرغم من معارضة زوجها في البداية، تقول وهي مستغرقة في إصلاح إحدى الدراجات والشحم يغطي وجنتيها وتملأ يديها: «انتزعت الحصرية من الرجال، ها أنا اليوم أثبتُ وعن جدارة كفايتي في هذا العمل وأكثر، بدليل زبائني الذين يقصدونني من كثير من المناطق اللبنانية من داخل العاصمة وخارجها».

معارضة الزوج تحولت مع الأيام إلى شكل كبير من التعاون، بعد أن أصبح يدها اليمنى في عملها في سبيل تأمين لقمة العيش لهما ولابنتهما الوحيدة. بدوره، يرى الباحث الاجتماعي الدكتور هاشم بدر الدين أن «اقتحام المرأة لسوق العمل يأتي في إطار تعزيز حضورها، ومحاولة تغيير النظرة الدونية إليها التي عمرها مئات السنين»، دون أن يخفى أن اقتحامها لمهن كانت حكرا على الرجال «طبيعي في زمن الانفتاح الثقافي».

في الختام، فإن دخول المرأة هذه المهن خطوة مهمة لتقدّم المجتمع ولإزالة الحواجز الوهمية بينها وبين الرجل، ومن الضروري التشجيع عليها لإثبات أهليتها، ولأنه «خير للمرأة أن تعمل في مهنة من أن تكون عالة على أحد»، على حد تعبيره.

ولا يسعنا إلا القول إنه في زمن تضيق فيه سبل العيش، ويصبح تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة عبئا ثقيلا يرخي ظلاله على مختلف الفئات المجتمعية، لا سيما الشباب منها، وفي مجتمع صارت فيه الوظيفة حلما منشودا، تبرز حالات مميزة كهذه تصبح محط نقاش، ويُثار الجدال حولها إلى حد بعيد.