وثائق عن بدايات مهنة «القراجوز» و«مغني الرجال» في مصر

العثور على ثالث رخصة عرض سينمائي بالعالم في الإسكندرية

TT

«تشخيص ألعاب سيماوية»، وصف كتبه المسؤول عن إصدار الرخص من نظارة الداخلية المصرية عام 1898، اشتقه من كلمة «سيما»، عندما صدق على أولى رخص العرض السينمائي الذي بدأ في الإسكندرية، وكان ثاني عرض في العالم بعد أول عرض في فرنسا. وقد تم العثور على رخصة ثالث عرض سينمائي في العالم تم أيضا في الإسكندرية، ضمن مقتنيات أشهر جامعي الوثائق في مصر؛ الباحث مكرم سلامة.

يروي مكرم تاريخ تلك الرخصة قائلا: «أول رخصة لعرض سينمائي كانت لعرض يقام في (تياترو عباس حلمي)، مسرح سيد درويش حاليا»، وكان ذلك العرض الذي تلا عرض «بورصة طوسون»؛ ثاني عرض سينمائي في العالم. ولم تكن كلمة سينما معروفة بعد في اللغة العربية ولذلك كتب المسؤول «عروض سيماوية» من كلمة «سيما» بالعامية.

كُتب في الوثيقة التاريخية أن طالب الترخيص هو شخص يدعى مايروني وهو من رعايا إيطاليا ويقيم بالمنشية، ومحل ميلاده ميلانو بإيطاليا، وأيضا كتبت أوصاف له بأنه متوسط القامة وعمره 28 سنة، إلى جانب وصف لون الشعر والعينين والحاجبين! فيما يبدو أنها كانت وسيلة للتحقق من هوية الشخص صاحب الرخصة.

تلك الرخصة هي واحدة بين آلاف الوثائق والرخص التي يقتنيها مكرم، وقد عُثر عليها مهملة عند تجار الورق والخردة. وتكشف مدى الثراء الثقافي والفني الذي كانت تعيشه مدينة الإسكندرية التي كانت مدينة عالمية ساطعة. وتعكس الحالة التي كانت عليها مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لدرجة تجعل المتعمق فيما تحمله من معلومات مهمة يقف مشدوها أمامها، لدرجة تجعله فريسة للحسرة والندم على تلك الحقبة التاريخية المتوهجة.

يقلب مكرم في آلاف الرخص والوثائق، واستوقفتنا رخصة باسم جوزيه نيفرس من رعايا النمسا، ومقيم بحي اللبان الشعبي بالإسكندرية لكي يتمكن من «الوقوف بماكينة فونوغراف بجهة المنشية الصغرى أمام كنيسة الإفرنج للتفرج عليها»، وهي رخصة بتاريخ 4 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1899.

ويستعرض مكرم ما في جعبته من وثائق ورخص، قائلا: «من الرخص المهمة أيضا رخصة باسم سليم أفندي عطا الله، رئيس جمعية محبي التمثيل، لتقديم رواية (روميو وجولييت) بمسرح (عدن) بالعطارين عام 1899. وتكشف الرخصة أن العرض كان مصرحا به من الساعة 9 مساء وحتى الثانية بعد منتصف الليل». يُشار إلى أن سليم عطا الله هو مكتشف الكوميدي الراحل نجيب الريحاني.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، صدر ترخيص آخر بتمثيل رواية «أوتيلو» (عطيل) على «تياترو عباس حلمي»، صادر باسم إسكندر أفندي صقلي.

ومن طرائف تلك الرخص النادرة أنها تكشف الكثير عن الحياة الاجتماعية في ذاك الوقت، ومنها المهن التي كان المصريون والأجانب يزاولونها، ومنها «مغني رجال»، و«مشخصاتي». وأن هناك عروضا مسرحية خاصة بالسيدات، وتراخيص الحفلات الراقصة التي كانت طقسا اجتماعيا يميز تلك الحقبة الذهبية من تاريخ مصر الحديث. وهو ما يظهر في رخصة رقم 34 لعام 1899، كتب بها رخصة لعمل «باللو» وكان يقصد بها حفل راقص، في «تياترو الهمبرا بمحطة الرمل». وكانت الرخصة تسمح بإقامة الحفل حتى الرابعة فجرا.

والطريف أن المصريين أصبحوا يستخدمون كلمة «باللو» في لغتهم العامية عندما يُحدث شخص ضجّة بقولهم: «إنت عامل لي باللو».

ويشير مكرم إلى رخصة رقم «232» باسم تيروسيرافيو، التي تلزمه بأن يكون العرض المسرحي الذي سيقدمه على «تياترو زيزينيا» الشهير «للسيدات فقط»، وهو أمر يعكس استيعاب المجتمع المصري لأهمية الفن والثقافة.

وأثناء تصفحه تلك الوثائق الثمينة، يتوقف مكرم لوهلة أمام رخصة رقم «158» لعام 1899، باسم جورجي أوطسون، من رعايا اليونان مقيم في شارع عمر باشا، بقسم محرم بك. تلك الرخصة لعمل «آلاتيه» (مغني رجال) بمحله الكائن بأرض نوبار لمدة شهرين من تاريخه، شرط عدم دخول «حريمات»، أي سيدات، وإذا حصلت شكوى من الجيرة تكون تلك الرخصة المؤقتة ملغاة عندما يعلمه البوليس بإبطال المغنى والآلات.

ويبدو من تلك الوثائق بداية وسائل الترفيه التي بدأت تغزو المجتمع المصري، ومنها «ألعاب خيال الظل» التي منحت وزارة الداخلية لها رخصة عام 1898 للعرض في قهوة «اجيبسيانا» بالمنتزه بالإسكندرية، لصاحبها جوني منك، المولود في إسطنبول، ولكنه من رعايا مالطا.

ويؤكد مكرم أن تلك الرخص تكمن قيمتها فيما ترويه وتسرده من تاريخ المهن المصرية وبدايتها، التي قد اندثر بعضها الآن، فمثلا يتكشف تاريخ مهنة «المصور الفوتوغرافي المتجول» من خلال أول رخصة لمزاولتها، التي يقول مكرم عنها: «مُنحت الرخصة المسجلة بتاريخ 25 أبريل (نيسان) لعام 1899 لشخص يدعى (مارج ماتيه)، للتجول بصندوق فوتوغرافية بشوارع الثغر، ما عدا شوارع الترام والمنشية وشارع شريف باشا».

ويضيف مكرم أما مهنة «قراجوزاتي» فصدر لها ترخيص رقم 520 لعام 1904 لشخص يدعى مصطفى محمد الأفغاني ومحل مولده كابل، لفتح «قراجوز» في قسم المنتزه بالزقازيق مؤقتا لمدة 10 أيام.

أما صاحب السينما في ذاك الوقت، فقد كان يطلق عليه «صاحب محل فُرجة»، وهو ما تكشفه رخصة ممنوحة لكوفلان سلفاتوريس أحد رعايا إيطاليا لتشغيل ماكينة السينيماتوغراف لمدة 3 شهور في «تياترو الهمبرا» الشهير الذي لعب دورا مهما في مسيرة المسرح المصري، كما تغنى به أشهر نجوم الطرب العربي فيما بعد، ومنهم كوكب الشرق أم كلثوم، وفريد الأطرش والعندليب عبد الحليم حافظ.