«سفينة الضوء» الخشبية.. لوحة فنية على ضفاف العاصمة المغربية

فكرة لثلاثة فرنسيين نقلت «التاريخ» من الهند إلى نهر «أبو رقراق» في الرباط

«سفينة الضوء» على ضفة نهر «أبو رقراق» (تصوير: منير أمحميدات)
TT

قطعت هذه «السفينة الخشبية»، آلاف الكيلومترات لتنتقل من الهند إلى ضفة نهر «أبو رقراق» على شاطئ الرباط. أضفت هذا «السفينة المهاجرة» منظرا جميلا على المنطقة، ويمكن القول دون جنوح إنها لوحة فنية أضيفت لمشهد ثلاثي يجمع بين نهر «أبو رقراق» و«قصبة الوداية» وجانب من سلا العتيقة، وهي واحدة من أقدم المدن في المغرب.

اختار هذه «المعلمة الجديدة» على ضفة نهر «أبو رقراق» فريق يتكون من ثلاثة فرنسيين. ويشرح سيلفان بودوفان وهو أحد الثلاثة الفكرة، لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «أطلقنا على هذا السفينة الخشبية اسم (الضوء)، وهي سفينة تقليدية عربية الأصل، تمكن الهنود من تقليدها عندما كان العرب قبل أربعة آلاف سنة يذهبون إلى الهند بغرض التجارة، ويتركون سفنهم راسية على السواحل الهندية. كان العرب يدركون آنذاك جودة الخشب المتوفر في الهند، ويبادرون إلى شرائه واستعماله لصنع سفن عربية تقليدية، وتمكن الهنود بدورهم من الاستفادة من خبرة العرب في صناعة السفن والاستثمار في المادة الأولية التي كانت متوفرة ومعروفة بجودتها».

وأوضح بودوفان أن صناعة مثل هذا النوع من السفن التي كان يطلق عليها اسم «الضوء» كانت صناعة يدوية 100 في المائة، مؤكدا عدم استعمال أي آلة ميكانيكية أو كهربائية في عملية التصنيع. واعتمد في صناعة السفينة «الضوء» الطريقة التقليدية، حيث تولت أسر هندية مسلمة صناعة السفينة بالطريقة نفسها في الهند التي كانت تصنع به السفن العربية في عصور قديمة.

وأشار إلى أن بعض الأسر الهندية لا تزال تحتفظ بأسرار صناعة السفن والبواخر، التي تعود إلى 4 قرون خلت.

لم يكن اختيار الشاطئ الذي ستنقل إليه السفينة الخشبية، أمرا سهلا على أصحابها، ولأنها «معلمة تاريخية» لا بد من وضعها في مكان مناسب، مع توخي أن يكون هناك انسجام بين المكان وهذه السفينة الخشبية، خاصة على مستوى الجانب التاريخي ودلالاته.

يقول بودوفان: «اختيارنا لمدينة الرباط كان مجرد صدفة، نحن لم نكن نعرف العاصمة المغربية قبل 3 سنوات، بحثنا في الإنترنت ووجدنا مصادفة في أحد مواقع الرباط صورة لـ«قصبة الوداية» (حصن أثري) وبدا لنا أنه المكان الأفضل على الإطلاق، خصوصا أن المكان قدم لنا حلولا للمشكلات الفنية التي كان من الممكن أن نتعرض لها أثناء نقل السفينة الخشبية ووضعها على الشاطئ».

ويشرح بودوفان هذا الأمر قائلا: «افترضنا أن السفينة الخشبية ستكون محاطة بقوارب أخرى تقليدية وعربية، توجد جميعها في مكان عربي أصيل، لذلك كان القرار النهائي نقلها إلى ضفة نهر «أبو رقراق».

شرع أصحاب مشروع السفينة الخشبية في تشييدها عام 2009 بتكلفة مالية باهظة نسبيا، حيث كلفت أزيد من 20 مليون درهم (مليونان ونصف المليون دولار)، وتبلغ مساحتها 500 متر مربع، وتزن مائتي طن وتصل قدرتها الاستيعابية لاستقبال ضيوف إلى أكثر من مائة شخص.

تتكون السفينة الخشبية من 3 أماكن أساسية، هي الشرفة والصالون والمطعم، لكل واحد منها خصوصيته، ويحرص أصحاب هذا المشروع على أن تتمايل السفينة الخشبية، يمينا وشمالا وعموديا وأفقيا، ويقولون إن ذلك يؤثر على الدماغ إيجابيا، ولا يتسبب في أي دوار، بل يجعلك تسترجع بعض ما التصق في الذاكرة، في حين أن المكان نفسه يذكرك ببعض الجوانب التاريخية. في الشرفة، على سبيل المثال، يمكنك أن تتمتع بجلسة أمام مدينة سلا وبرشفة من كوب القهوة الذي أمامك، تسترجع تاريخ المدينة وقصص القراصنة التي كانت تتصدى لهم بأسوارها وأبوابها الضخمة. ومن الجهة الأخرى يمكنك الاستمتاع بإحدى إبداعات «ملوك الموحدين» وهي من الدول التي حكمت المغرب، ويتجلى ذلك في «قصبة الوداية» فضلا عن ديكورات تقليدية بديعة تجعلك تسأل نفسك: من أين أتت؟ وإلى أي زمن كانت تنتسب؟

المؤكد أن السفينة الخشبية تحولت إلى مكان ساحر، يوحد فيه الجمال في كل مكان، وحشدت فيها ديكورات اختيرت بعناية فائقة، بحيث لا تملها العين. يمكن للضيوف على متن مطعم السفينة الخشبية، وهو المكان الرئيسي الثاني، من التلذذ بتناول أطباق من مختلف أنحاء العالم ومن مطاعم وأكلات متنوعة، وتتفاوت أسعار الأطباق التي تبدأ من 100 درهم (12 دولارا) وتتصاعد، لكن سقفها الأعلى يبقى معقولا. وفي الطابق الأسفل يوجد الصالون، وهو يصلح تماما للمناسبات العائلية، أو لتنظيم لقاءات بين أسر وأصدقاء، كما يمكن تنظيم حفلات سهرات بداخله. كما توجد به دكة خشبية صغيرة لموسيقيين تعزف أوتارهم على إيقاعات العالم.

لا يزال الوقت مبكرا للحكم على مدى نجاح هذا المشروع المبتكر على ضفة نهر «أبو رقراق»، الذي يفصل بين مدينتي الرباط وسلا. وفي هذا السياق يقول سيلفان بودوفان إنه سعيد بالنتائج التي حققها المشروع منذ تدشينها وحتى الآن، كما أنه تمكن من تحقيق الأهداف التي كان يأمل فيها مع شركائه الآخرين، مؤكدا أن 80 في المائة من زبائن السفينة الخشبية هم من المغاربة، والبقية من سياح ينتمون إلى مختلف دول العالم.

تعتبر «سفينة الضوء» التي نالت إعجاب آلاف الناس، منذ وصولها إلى الرباط، مكانا مناسبا للقاء العشاق والراغبين في أجواء رومانسية، كما تعتبر فضاء ملائما لرجال الأعمال، ومكانا للأسر يمكن أن تسترخي فيه، وتفلت ساعات من ضغوط وإيقاع الحياة اليومية.

هي فكرة من الأفكار التي تجسد الميل للابتكار.. في كل شيء، حتى لو تعلق الأمر بنقل «تاريخ» من الهند إلى ضفاف الرباط.