قوارب «أبو رقراق» بين الرباط وسلا تصارع ضد الاندثار

عملت عقودا طويلة في نقل الركاب بين المدينتين.. ومعظم روادها من العشاق

أصبحت عائداتها لا تكفي لتوفير ثمن وجبة في بعض الأحيان
TT

ظلت القوارب الخشبية لعقود طويلة هي إحدى أهم وسائل المواصلات بين الرباط وسلا على ضفتي نهر «أبو رقراق» الذي يفصل بين المدينتين. يحمل كل قارب اسما اختاره له صاحبه، هناك «وردة» و«هند» و«وجيبة» و«برابرة». بيد أن هذه القوارب التي ظلت مصدر العيش الوحيد لأصحابها باتت على وشك الاندثار، وأصبحت عائداتها لا تكفي لتوفير ثمن وجبة في بعض الأحيان، ويحاول أصحابها الآن أن يجدوا مخرجا بتحويلها إلى قوارب للنزهة للراغبين خاصة من العشاق في العطلات ونهاية الأسبوع. سبب قرب اندثار هذه القوارب هو تشغيل خط «الترام» السريع بين الرباط وسلا الذي أصبح الوسيلة المفضلة للتنقل بين المدينتين المغربيتين.

كانت هذه القوارب الخشبية في الماضي تقوم برحلاتها ذهابا وإيابا لنقل الركاب بين الرباط وسلا، وكان عددها يتجاوز في بعض الأحيان 200 قارب، لكن العدد تراجع الآن وأصبح لا يتعدى حاليا 72 قاربا مصطفة طوال الوقت على جنبات نهر «أبو رقراق» لا تتحرك إلا لماما.. معظمها قوارب زرقاء اللون، بعضها مخطط بالأبيض والأزرق وأخرى بالأبيض والأخضر، وتستعمل جميعا المجاديف بدلا من المحركات في التنقل ما بين ضفتي النهر.

يقول رشيد دحماني، الذي وجدناه مشغولا بربط حبال قارب ظل مصدر رزقه منذ أكثر من عشرين سنة «كان مئات الركاب يوميا يتنقلون بين ضفتي النهر، خصوصا الأشخاص الذين يعملون في الرباط ويقيمون في سلا، إذ شكل التنقل بالقارب وسيلة المواصلات الأسهل والأرخص». وأضاف «كنا نحمل على متن القارب من ثمانية إلى عشرة ركاب، كل منهم يدفع قدرا زهيدا لا يتجاوز ثلاثة دراهم (أقل من نصف دولار).. وكنا راضين بمداخيلنا، والناس سعداء بهذه الوسيلة، لكن بعد الترام تغير كل شيء».

يشرح دحماني الوضع حاليا «أصبح ثمن الرحلة الآن لا يتجاوز درهمين، ومدتها لا تتعدى عشر دقائق، لكن عدد الركاب يتناقص يوما بعد يوم، لا يتجاوز المدخول الكلي في اليوم 50 درهما (ستة دولارات)، وأصبحنا نركز أكثر على جولات النزهة بناء على رغبة الركاب، وهم في غالبيتهم من الشباب أو العشاق، ويحدد ثمن الرحلة طبقا للمسافة، إذ الجولة القصيرة سعرها 30 درهما (أربعة دولارات)، والجولة الطويلة 50 درهما (ستة دولارات)، لكن فئة قليلة هي التي تطلب جولات طويلة».

وحتى يجد أصحاب هذه القوارب، التي يطلق عليها اسم «الفلايك» ومفردها «فلوكة»، مخرجا لوضعيتهم الحالية، شكلوا جمعية تضم 72 شخص هي «جمعية الفلايكية»، وحددت مهامها في التوعية والتأطير وتدريبهم على طرق التعامل مع رواد المنطقة التي ستصبح في المستقبل من أكبر المناطق السياحية في العاصمة المغربية. وتلقى أصحاب الزوارق الخشبية وعدا بتزويدهم بقوارب حديثة بدلا من قواربهم التقليدية، ستكون لها جودة عالية ومجهزة ومزينة بأفرشة حسب ذوق صاحبها. يقول دحماني «القوارب الحديثة جاهزة، لكن هناك عقبات تحول دون تسلمنا لها، لأنهم فرضوا علينا 3500 درهم (440 دولارا) سنويا، وتزيين القارب عند تسلمه بمبلغ 2500 درهم (315 دولارا)، لكننا لم نستطع أن نسدد هذه المبالغ». وأشار إلى أن أغلبية أصحاب القوارب لا يتقنون لغة أجنبية، وهو ما تشترطه الجهات المختصة من أجل تسليمها القوارب الحديثة. وطالب المهتمين بالقطاع بتأطيرهم في هذا الجانب حتى يسهل عليهم التواصل مع السياح.

وقال دحماني إنهم وعلى الرغم من تراجع المهنة وقرب اندثارها، يحافظون على العرف الذي ينظم المهنة، ومن يخالف ذلك يعاقب، ومثال على ذلك أنه في حالة حدوث خصومة بين صاحب القارب والزبون أو التعامل معه بطريقة غير لائقة يجتمع أصحاب القوارب ويحاسبون صاحب القارب، ومن ذلك إيقافه عن العمل لمدة ثلاثة أيام. ويروي دحماني «في السابق كان يستعمل القوارب فنانون وممثلون مغاربة وأجانب، أما الآن فلم يعودوا، ونحن نبدأ العمل في السابعة صباحا، ونستمر في انتظار الزبائن إلى نحو الساعة السابعة مساء»، لكنه يشير إلى وجود إقبال للعشاق على القوارب وبالأخص في نهاية الأسبوع. وحول سبب تشبث هؤلاء «الفلايكية» بهذه المهنة على الرغم من الأزمة التي تعرفها وقرب اندثارها يقول دحماني «ما يجعلنا متشبثين بهذه المهنة هو أنه لا توجد لنا أي مهنة أخرى، منذ عقود نحن هنا، بعضنا أمضى ستين سنة وهو يعمل بهذه المهنة، ويصعب عليها أن يتركها».

يقول صاحب قارب آخر متحسرا «حركة العابرين لم تعد كما كانت في السابق، ولم يعد الثمن البخس من ناحية، وقصر المدة الزمنية والمسافة الفاصلة بين المدينتين من ناحية أخرى، يشجعان الناس على التنقل بالقوارب». يتذكر إبراهيم البربري «لم أكن أبقى طويلا في انتظار الزبائن، إذ خلال فترة وجيزة كان عدد كاف من الركاب يتجمعون فوق القارب. كان النهر أكثر عطاء، لكن اليوم أصبحت أكتفي ببعض الجولات السياحية، ونزهات قصيرة في النهر، وربما لا أصل طول اليوم إلى الضفة الأخرى من النهر، كل ذلك بسبب استخدام الناس للترام».

تمتد العلاقة بين الرباط وجارتها سلا إلى قرون طويلة من الزمن، ولعبت دورا مهما في صد الغزاة، لتصبح لاحقا مدينة تعج بالسكان شيّدت فيها معالم أثرية لا تزال باقية. وتشكل المدينتان حالة فريدة من نوعها بين المدن في المغرب، فهما الوحيدتان اللتان يفصل بينهما نهر، لذلك ظل التنقل بين ضفتيها ومنذ عشرات السنين بتم بالقوارب.

منظر هذه القوارب على نهر يفصل بين الرباط وسلا يشكل ذاكرة مشتركة بين المدينتين، حيث لا يزال بعض الأوفياء من أبناء المدينتين، يعتمدون عليها كوسيلة نقل أساسية للتنقل بينة ضفتي النهر. هي حالة عاطفية مترسخة بين الإنسان والمكان. كثيرون يرون أن اندثار قوارب نهر «أبو رقراق» يعني اندثار تاريخ.