«شهر لسوريا» يجمع مئات الفنانين في بيروت

مسرحية «الغرف الصغيرة» تفتتح «منمنمات» بسريالية وإباء

مشهد من مسرحية «الغرف الصغيرة»
TT

«شهر لسوريا» في لبنان الذي افتتح أعماله مساء أول من أمس، لن يكون عويلا وبكاء على وطن ينزف، بل محاولة فنية لتقديم سوريا بكبرياء وظرف وفنية عالية. في مسرح «دوار الشمس» وعلى مدى أكثر من ثلاثين يوما سيقدم فنانون سوريون وفلسطينيون إضافة إلى بعض الفنانين اللبنانيين، أعمالا فنية على شرف الوطن الجريح.

مئات الفنانين السوريين لجأوا إلى لبنان، من مسرحيين، تشكيليين، راقصين، موسيقيين، سينمائيين، هؤلاء كانت لهم علاقات فنية سابقة مع لبنان، وجاءت الثورة السورية لتدفع بهم خارج وطنهم. في بيروت كل فنان من هؤلاء يحاول أن يستمر في عمله، والبعض نجح بينما الآخر لا يزال يبحث. مجموعة من هؤلاء تقيم «الشهر السوري» أو ما سمته «ملتقى للفن السوري المستقل»، نائية به عن فوضى السياسة ومتاهاتها، بالتعاون مع مسرح «دوار الشمس». فهذا الشهر ليس لتأييد الثورة أو معاضدة النظام، وإنما لتقديم سوريا بشعبها وآلامها وأوجاعها وأملها بمستقبل مشرق.

مساء الخميس، افتتحت أعمال «منمنمات» بكلمة من المخرج اللبناني المعروف روجيه عساف قال فيها: «شهر لسوريا تجاهلوا خلاله التحليلات السياسية، والتفكير في صحة ما يقوله هؤلاء وأولئك»، مضيفا: «اسمحوا لي أن أكون شكاكا بالجميع ومتواضعا أمام ما يثير قلقنا ويفضح قصر النظر»، معطيا الأولوية لـ«الإصغاء إلى الشعب».

الفاتحة كانت مع مسرحية «الغرف الصغيرة» نص وإخراج وائل قدور الذي لم يتمكن من الحضور من الأردن إلى لبنان بسبب إجراءات جديدة فرضت على تنقل السوريين جوا إلى بلاد الأرز.

لكن غياب دينامو المسرحية لم يمنع ممثليها وائل معوض، فاتنة ليلى ومهيار الجراح، من أداء أمتع وأسعد الحاضرين. إنها قصة صبا، المرأة التي فرض عليها شقيقها ما يشبه الإقامة الجبرية لمدة 8 سنوات لملازمة والدها الواقع في غيبوبة ولم يبق منه غير الأنفاس. صبا لا يربطها بالعالم الخارجي سوى الطبيب عمار الذي يزور والدها المريض ويتبادل معها أسراره وحكايات زوجته التي تخونه وابنه الذي يخشى عليه من مستقبل مجهول بعد أن ينفصل عن حنان، لأن الحياة معها ستصبح مستحيلة ذات لحظة.

يدخل على خط الأحداث سريعا، صاحب سوبر ماركت الحي، سعد الذي يقيم علاقة مع صبا ويتردد على منزلها، ويبدو أنه يتعامل معها بانتهازية مستغلا وضعها النفسي البائس.

يظن المتفرج للمرة الأولى كأنما المسرحية هي حكاية امرأة عالقة بين رجلين نراهما على الخشبة، وأخ متسلط لا يحضر إلا من خلال الأحاديث، والجارة أم حسام التي نعرفها بسبب تداول اسمها والإتيان على ذكرها. فهي الرقيب الذي يعرف ما الذي يدور في البيت ويهدد بالفضيحة. لكن في العمق نحن أمام نموذج مجتمعي، يبرز فيه الرجال ضحايا أيضا فسعد يتعذب، ورغم إحساسنا بحريته الظاهرية هو مكبل بألف حساب ومثله الدكتور عمار الذي رغم مكانته لا يسعد مع زوجته، ولا يستقر في بيت، ومع الوقت يجد في صبا بديلا عن المرأة التي يفقدها وهي تنسحب إلى أحضان غيره.

عبقرية المسرحية ليست فقط في هذه التفاصيل الصغيرة المعذبة التي تتكشف رويدا رويدا، وإنما في نص مدروس، مقنن، مشذب، يبقي على اللازم من الكلمات والعبارات، دون هدر أو أي ثرثرة. أما الإخراج فهو متقشف، لا يسرف في ديكور ولا يكثر من حركة، ولا يبالغ في ضوضاء أو يتمادى في موسيقى أو حتى في تغيير الإضاءة.

في مسرحية «الغرف الصغيرة» التي قدمت عرضين لها في عمان قبل وصولها إلى لبنان، كل العناصر زينت بمقدار، واستخدمت بحيث تتوازن مع بقية العناصر. ميزان دقيق يجعل العمل جميلا دون إبهار، ذكيا دون تبجح، وواقعيا بقدر ما هو عبثي وسريالي في آن.

يبدأ المشهد الأول في غرفة الجلوس حيث كنبة كبيرة يجلس عليها الدكتور وأخرى صغيرة تجلس عليها صبا وطاولة صغيرة أمام الكنبتين تسعف الدكتور في وضع منفضة سجائره، كلما ضاق صدره واحتدمت الأفكار. في الزاوية طاولة صغيرة عليها مسجل وزجاجات مياه. هذا الديكور الثابت الذي لا يجد المخرج حاجة لتبديله طوال المسرحية التي تستمر ما يقارب الساعة والنصف لا يجلب ضجرا، أو يثير مللا. المسرحية تبدأ كأنها اسكتشات، في كل مرة يخرج الدكتور عمار من غرفة الوالد ويتوجه إلى الكنبة، ليخبر صبا عن وضعه الصحي، وتبدأ أحاديث بين الاثنين هي أقرب إلى البوح. بمرور الوقت يعرف عمار وسعد أنهما يتقاسمان حياة صبا، وتحتدم الحكاية. لكن ليست قصص الحب في المسرحية سوى الواجهة التي ستكشف ما يختلج في النفوس. صبا التي قتلت قطتها وكذبت على الدكتور عمار، ولا مانع لديها من قتل والدها أيضا. سعد الذي يريد أن يتسلى ويمضي الوقت مع امرأة حتى لو دمر ذلك حياة صبا رغم أنه يحبها ولا يبدو أنه يريد أن يستغني عنها. الدكتور عمار يبدو رصينا حكيما، لكنه في الحقيقة قادر على القتل، وعلى دفن الموتى والرقص على جثثهم. كل هذا العنف في منزل صغير، فيما تجري الحياة شديدة الرتابة والهدوء. لا موسيقى في المسرحية غير مقاطع قصيرة تمر عابرة لأغنيات تستمع لها صبا، أما الموسيقى الأهم فيها فصوت الغسالة التي تدور وتحدث دويا مقسما للمشاهد، وكأنما الصوت هو الستار الفاصل بين أجزاء العمل.

بميزان الذهب وزن أكرم قدور حركات ممثليه، وكلماتهم، وضحكاتهم، ونكاتهم، كما عدد دورات صوت الغسالة التي جعلت صبا وهي تطوي الغسيل امرأة شرقية مكسورة لا بد في النهاية أن تعثر على منفذ من سجنها البيتي.

الغرف الصغيرة التي قدمت في عرضين، هي فاتحة من مسك، لشهر سوريا الفني أو ما أطلق عليه اسم «منمنمات». ويوم 8 من الشهر سيقدم عرض «سيلوفان» الراقص لفرقة «سما» السورية التي استقرت مؤخرا وبدأت العمل في لبنان، ويوم 12 و13 سيقدم عرضان لمسرحية المراقب من إخراج يامن محمد. أما يوم 19 فيشاهد الجمهور أفلاما سورية، يليه يوم مفتوح لكل الفنانين الذين يودون تقديم عمل مكتمل، لم تتم برمجته، أو يعتقد أنه لم يكتمل فنيا بعد. وعلى لائحة البرنامج حفلة موسيقية لفرقة «طنجرة ضغط» السورية التي بدأت عملها في لبنان أيضا، وهناك فرقة سورية موسيقية أخرى ستأتي من أميركا تحمل اسم «حوار» يشارك فيها الفنان الموسيقي كنان العظمة الذي سبق له وعزف مع مارسيل خليفة، وكذلك مغنية الأوبرا ديما اورشو. كما أن هناك حفلا تقدمه الموسيقية نيسم جلال وأمسية تقرأ فيها الفنانة اللبنانية حنان الحاج علي لنبراس شحيد «حكايات سورية من لبنان».

منسق النشاطات، الفنان المسرحي يوسف كبرا، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن الفنانين السوريين، من خلال هذه الأنشطة، يعملون، ينتجون، ويستعيدون أعمالا كانوا قد قدموها من قبل، لجمهور لم تتح له مشاهدتها». يوسف لا يمانع في القول: إن «بيروت بالنسبة لبعض الفنانين السوريين، ومن خلال ما يقدم فيها باتت بدلا عن ضائع، بانتظار أن تستعيد سوريا عافيتها».