شاغال الرسام الذي طاردته النزاعات

معرض كبير في باريس يجمع أعمال الفنان الروسي الأصل بين الحربين

شهرزاد الطالعة من قلب اللوحة بردائها الطويل الحلمي وشعرها متروك لريح المغامرة
TT

حين رحل الرسام مارك شاغال عن هذه الدنيا أواسط ثمانينات القرن الماضي، كان في رصيده قرابة 100 عام من التجارب والرحلات والصداقات، وأيضا، الصراعات. لقد كانت عين الفنان الثاقبة تشاهد وتهضم ما تراه لكي تعيد إنتاجه على القماش بألوان مستمدة من صخب العالم وأشكال مخصبة بالخيال. لذلك فقد كان القائمون على متحف «اللوكسمبور» في باريس موفقين حين اختاروا تنظيم معرض له يضم اللوحات التي رسمها بين الحربين. إنها الفترة الزمنية التي هزت تاريخه الشخصي، وهو اليهودي المولود في روسيا تحت حكم القياصرة، ودفعته إلى الهجرات المتعددة ما بين مسقط رأسه وفرنسا والولايات المتحدة، كما طبعت فنه بأطياف تتراوح بين ما يعيشه وما يحلم به.

لقد عاش الثورة البلشفية وشهد بعدها حربين عالميتين. لكن لوحاته ظلت تستحضر أجواء «فيتبسك» المدينة التي رأى فيها النور، متشبثا بالتقاليد الدينية وناهلا من حكايات التوراة ومركزا على ثنائية الرجل والمرأة ودفء العائلة. كل هذا يراه الزائر في نحو من 100 عمل تعكس النظرة المختلفة التي قدم فيها شاغال رؤيته للحرب ثم للسلام. وبحسب نقاد الفن، فإن أعمال هذا الفنان لا يمكن حصرها في منظور واحد، بل إن كل لوحة تحتمل عدة قراءات، ذلك أنه يجمع فيها، ببراعة الموهوب، بين الحدث وبين تأثيره على الرسام، كأنه دأب، وهو يرسم، على أن يتطلع إلى ما يجري حوله في العالم وإلى ما يتقد داخل نفسه في آن، تاركا مشاعره تقود ريشته.

يدلف زائر المعرض إلى جو مسحور يبدو وكأنه الطبعة الغربية من قصص ألف ليلة. فهناك الفارس الذي يطير على فرسه وهو يحتضن خصر حبيبته، وهناك شهرزاد الطالعة من قلب اللوحة، بردائها الطويل الحلمي وشعرها المتروك لريح المغامرة. لوحات كبيرة الحجم، تضج بالألوان الزاهية والأشكال الغرائبية. وما بين الحلم والواقع وثنائية الرجل والمرأة، تحضر كل مفردات الطبيعة من أزاهير وأطيار وحيوانات وفراشات وعناقيد دالية. وحتى عندما يريد الفنان أن يرسم صورة شخصية له، فإنه يمنح نفسه ملامح الكائن الذي يحمل رأس حمار وجسد إنسان، رجل يحيط عروسه بذراعه. هل كانت الاستعارة إشارة من شاغال إلى بطل رواية «الأبله» لديستويفسكي، مواطنه الذي ينتمي مثله إلى شعب يجمع بين الحكمة والجنون؟

لوحات المعرض جاءت من متاحف كثيرة في أرجاء العالم، وخرجت من مجموعات خاصة وغادرت الجدران المخملية والخزائن الحصينة في أقبية المصارف، واجتمعت في معرض كبير من النوع الذي تتفوق باريس في تجميعه وتقديمه لأهلها وزوارها. وباريس هي العاصمة التي قصدها شاغال، عام 1910 لدراسة الفن وعرف فيها بدايات شهرته وتألقه، كما نال الجنسية الفرنسية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، بفترة وجيزة. ويعيد دليل المعرض التذكير بأن النازيين كانوا قد صادروا عددا من لوحاته، في عام 1937، وعرضوها في ميونيخ، بألمانيا، ضمن معرض بعنوان «الفن المتحلل». وكانت تلك إشارة تمهيدية للقضاء عليه. ومع اندلاع الحرب وغزو هتلر لفرنسا، تم إلقاء القبض على شاغال واستجوابه، عام 1941. وبفضل الصحافي الأميركي فاريان فري تمكن الوصول إلى الولايات المتحدة. وهكذا ظل الفنان مسكونا، دائما، بشعور الطريدة التي يترصدها الصياد، ميالا إلى موضوع الحيوان الذبيح في الكثير من أعماله.

ولد موشيه زاخاروفيتش شاغالوف في صيف 1887 في بيلاروسيا. ويعتبره الفرنسيون واحدا من أبرز الفنانين الأوروبيين الذين قصدوا باريس واشتغلوا فيها خلال القرن الماضي، إلى جانب بيكاسو ودالي. وهو مثلهما، لم يكتف بالرسم، بل مارس النحت والتلوين على الزجاج وحتى كتابة الشعر. إن أعماله لا تتبع مدرسة فنية محددة، بل تتداخل فيها السوريالية والفن الفطري بأشكاله الجديدة المستوحاة من الفولكلور الروسي وتقاليد يهود أوروبا الشرقية. وبسبب من هذه التأثيرات التوراتية، اتخذ النقاد العرب موقفا عدائيا منه، خلال سبعينات القرن الماضي، وقاطعت الصحف العربية أخباره وأعماله.

شهادته الفنية على الحروب والنزاعات تكتسب أهميتها من معايشته لما حصل في بلده خلال الثورة الشيوعية. وكان قد عاد لزيارة مسقط رأسه، عام 1914، للحصول على مبلغ يمكنه من مواصلة الدراسة في فرنسا، لكن قيام الحرب العالمية الأولى منعه من العودة إلى باريس. لقد شاهد ما فعلته آلة الدمار ببلدته والقرى المحيطة بها ورأى الجنود يحتضرون والنساء لا يجدن طعاما يطبخنه لأطفالهن. وفي عام 1922 لجأ الرسام إلى العاصمة الألمانية برلين، ثم داهمه الحنين إلى باريس، مدينة دراسته، فعاد إليها واستقر فيها ووصلت شهرته إلى أميركا، لا سيما بعد تعرفه على الناشر وتاجر الأعمال الفنية أمبرواز فولار. وقد طلب منه فولار أن يرسم له 30 لوحة بالأصباغ المائية لكي يطبعها في كتاب عن حكايات لافونتين.

تزوج شاغال مرتين، وزوجته الأولى هي بيلا التي شاركته الشطر الأول من حياته قبل أن ترحل في عام 1944 وتخلف في نفسه حزنا انعكس في لوحاته لتلك الفترة. وفي عام 1952 تزوج بفالنتينا برودسكي التي عاش معها حتى نهاية عمره. لقد عاد، بعد الحرب الثانية، إلى فرنسا ليواصل إنتاجه في منزل تغمره الشمس، على ضفاف المتوسط. وهناك، اليوم، متحفان لأعماله، الأول في مسقط رأسه والثاني في نيس، جنوب فرنسا. وحتى النهاية، لم يتخلص شاغال من هواجسه الروسية ولا من جاذبية التقاليد الدينية فكان يضع شيئا من أجوائها حتى وهو يرسم جسرا من جسور باريس.