البحث عن التمويل في سوق الخليج: من يدعم من؟

يوميات مهرجان الخليج السينمائي - 3

المخرج أسامة فوزي
TT

ملأ الجمهور القاعة الكبيرة في صالة الافتتاح يوم أول من أمس متحفّزا لبداية الدورة السادسة من هذا المهرجان المتخصص بالسينما الخليجية رغم عروض مختارة من دول العالم أيضا. وبعد كلمات التقديم والافتتاح والتحية، بوشر بعرض فيلم «وجدة» على جمهور غالبه الكاسح لم ير الفيلم في عروضه الخليجية أو الدولية السابقة.

يقول المدير العام للمهرجان مسعود أمر الله آل علي ردّا على سؤال حول اختيار فيلم هيفاء المنصور كفيلم افتتاح على الرغم من عروض سابقة بأنه، وببساطة: «رأيناه أفضل فيلم صالح لهذه الغاية». ويُضيف: «كان لدينا اختيار آخر نافسه، لكننا وجدنا أن (وجدة) يبقى أكثر أهمية».

وردّا على سؤال حول تأثير العروض السابقة لهذا الفيلم (ولسواه في المسابقة وخارجها) على عروضه الحالية قال:

«الناقد والمتابع عموما للأفلام في الغالب شاهده في مهرجانات سابقة، لكن هناك النسبة الغالبة من الجمهور الذي لم يشاهده بعد. لقد اكتشفنا أن كل العروض المحلية والعالمية التي سبقته ساهمت في تعزيز حضوره هنا خصوصا بين الأجانب الذين قرأوا عنه من خلال التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظي بها في الغرب».

وهو يرى أن أفلاما معيّنة عليها أن تجد سبيلا لكي تُعاد وسط غياب الفرص التجارية التي تتمتّع بها الأفلام التجارية عموما.

* البحث عن التمويل

* والحقيقة أن وجهة النظر مقبولة ولو أن الاختلاف يبقى قائما حول النسبة التي يمكن إتاحتها لإعادة عرض أفلام سبق لها وأن افتتحت في مهرجان دبي أو أبوظبي أو سواهما. لكن هذه الملاحظات تبقى جانبية حيال المهام الأساسية التي يواصل مهرجان «الخليج» التصدّي لها، وهي تفعيل سينما ذات هوية خليجية وتوفير كل الأسباب الممكنة من ناحيته لخلق فرص التواصل. هذا ما يضعه في مواجهة ظروف هي من أعباء المخرجين المحليين والخليجيين بل والعرب جميعا. وهي ظروف صعبة ومتأزمة رغم النشاطات الناجحة التي تعكسها مثل هذه المناسبة.

حين يتحدّث مخرج عن مشروعه الروائي الطويل المقبل، فإن كلماته المختارة تعكس المرحلة التي يمر بها المشروع. طبعا ترتفع النبرة بحماسة ظاهرة أحيانا وتنخفض لحد معين حينا آخر أو يصاحبها الإحباط في أحيان ثالثة.

المخرج المصري أسامة فوزي يمر بحالة تعتبر متوسطة. حين سألته عن مشروعه الجديد الذي يحاول تحقيقه منذ سنتين ابتسم ثم تنهّد ثم قال: «لا زلت أبحث عن التمويل، لكن الأوضاع والظروف كما تعلم صعبة وإذا كنت تعرف شخصا يمكن أن يموّلني من أي بلد عربي، أرجو أن تدلني عليه».

أسامة مر بهذه الحالة من قبل: بين «عفاريت الأسفلت» سنة 1996 و«جنة الشياطين» (1999) ثلاث سنوات (مدّة معقولة)، لكن بين «جنّة الشياطين» وفيلمه الثالث «بحب السينما» خمس سنوات، وبين ذلك الفيلم وفيلمه الرابع «بالألوان الطبيعية» (2009) خمس سنوات وهذا ليس طبيعيا في بلد كان مهد صناعة السينما العربية بأسرها.

والمشكلة ليست أن الظروف الحالية غير مواتية، بل إن الظروف لم تكن مواتية منذ نهاية الثمانينات. وخير من يعبّر عنها الفترات الطويلة التي تفصل بين أفلام مخرجين جيدين وطليعيين أمثال خيري بشارة وداود عبد السيد ومحمد خان وكاملة أبو ذكري وبشير الديك وأسماء البكري وسواهم. الآن أصبحت أصعب ومحمد خان إذ انتهى من تصوير «فتاة المصنع» ويقوم حاليا بتوليفه وإعداده، شهد مرور أربع سنوات جافّة بين حصوله على تمويل هذا الفيلم وبين آخر فيلم أنجزه وهو «في شقة مصر الجديدة».

والحال ليس مصريا فقط.

تسأل هنا مخرجين من دول الخليج المختلفة فتجد أن نسبة ملحوظة منهم في طور السعي بحثا عن التمويل، ونسبة أخرى لا زالت في إطار التخطيط للفيلم الروائي الطويل الأول مدركين بالطبع صعوبة الانتقال من التخطيط إلى التنفيذ.

أحد هؤلاء الساعين بحثا عن التمويل هو المخرج الإماراتي وليد الشحّي الذي يشترك في عضوية لجنة التحكيم ويتحدّث بثقة لافتة عن نيّة الانتقال من مرحلة تحقيق أفلام قصيرة وتسجيلية (وهي أفلام عادت عليه بجوائز مختلفة) إلى مرحلة فيلمه الروائي الأول. خطوة ينظر إليها بثقة وتفاؤل، لكنه يدرك، كسواه، أن المشوار ربما يكون حافلا وأن التأسيس قد يسير متمهلا.

* المفتاح هو الجمهور

* إذن هي إشكالية عامة يعاني منها الطامحون لتحقيق الفيلم التسجيلي ورئيس المهرجان عبد الحميد جمعة أول من يرفض تسويق وضع غير واقعي. يقول لنا: «نحن في دول الخليج كافّـة لا زلنا نؤسس صناعة الفيلم الخليجي، وهي لم تتم بعد. ما زالت قيد التطوير لكنها تحتاج لعدّة سنوات قبل أن تكتمل». ويضيف: «هذا سيبقى طموحنا بالطبع، لكن علينا أن نخطو الخطوات على نحو واقعي وأن نستثمر هذه الطاقات المختلفة. وإن سألتني سأؤكد بأنني أرى أننا نسير على نحو واثق إلى الأمام. لم نصل بعد لكننا في طريق الوصول».

مهرجانات السينما الخليجية (دبي، أبوظبي، الدوحة، أفلام من الإمارات، مهرجان الخليج) خلقت أجواء مريحة للتفاؤل بل وتجاوزته إلى مدّ العديد من الطامحين لتحقيق أفلامهم بأنواع مختلفة من الدعم. صناديق وورشات عمل ثم المزيد من الدعم المسكوب في شكل محاولة فتح أسواق. لم يبق لها سوى أن تنتج الأفلام بنفسها، ولو أنها لن تفعل ذلك بالطبع لأنها ليست الجهة الموكلة بذلك.

هذه المهرجانات تستند إلى مظلة من الدعم الرسمي وإلى رعاة من المؤسسات الرسمية والخاصّة. وهذا ما يمكّنها من مزاولة كل هذه الخطوات التي ساهمت حتى الآن إنجاز أفلام من أطوال مختلفة ومواضيع وأنواع متعددة. والأمر ليس حكرا على السينما في الخليج بل استفادت إنتاجات عربية أخرى (لبنانية ومصرية وأردنية وفلسطينية وعراقية غالبا) من هذا التوجه الذي بدا قبل سنوات كما لو كان مخاطرة وانجلى لبعض الوقت عن فوضى ملحوظة قبل أن يثبت ويتقدّم ويصبح مسؤولا عن بث الحياة في أوصال العمل السينمائي معوّضا بعض تلك الظروف الصعبة التي يحسب لها الإنتاج حسابات مالية وتسويقية أكثر بكثير مما كان يفعل من قبل.

والحال أن السينما لا تتشكل إلا بثلاثة شروط: الأول إنتاجي وصناعي، والثاني كمي والثالث زمني. معنى هذا الكلام أن السينما في بلد ما تنبع من معايير مهمة قوامها وجود كم من الإنتاج ورقعة من الزمن الذي يسمح لهذا الكم بالمثابرة والتنوّع - لكن ما يبقى مهما بل والأهم في الصورة كلها المقوّمات الإنتاجية. لقد أنتجت السينما في الخليج أفلاما عديدة قليل منها في القرن الماضي وأكثرها من مطلع هذا القرن حتى اليوم. الكم - على بعضه البعض وبصرف النظر عن نوع الفيلم ونوعيته - بات موجودا، لكن ما هو غير موجود ما يشكل عناصر الإنتاج الفعلي. لب المسألة ليس الجمهور المنتخب الذي يحضر المهرجانات، بل الجمهور الذي يقبل على صالات السينما. هذا لا يجب أن يغيب عن البال لأسباب جوهرية من بينها أن هذا الجمهور هو الذي يعلن الطلب وحين يعلن فإن الجهات الإنتاجية تستجيب لأنها ترى أن هناك مصلحة مادّية واضحة. لا يكترث الموزّع وصاحب الصالة إذا ما كان الفيلم آتيا من منطقة الخليج وحائزا على جائزة هذا المهرجان أو ذاك. ما يكترث له هو إذا ما كان الجمهور يهتم لدرجة أنه سيقبل على الصالة لمشاهدته أسبوعا وراء آخر.

بالتالي، فإن الجمهور هو الشرط الأول: وجوده يعني أبعد من مجرد إنتاج أفلام. يعني ثبات السينما وتأسيس صناعة فاعلة، وعلى فترة زمنية أقرب يعني وجود منتجين وموزّعين ينطلقون صوب السوق الخليجية بأسرها، لأن السوق المحلية لا تكفي وحدها لاستعادة التكلفة أو لا تغري بالمحاولات الجادة أساسا.

* مهرجانات تحت التأسيس

* وعلى الرغم من كل ذلك، لا زالت هناك تلك الطموحات الكبيرة على مستوى المهرجانات ذاتها. كل عام نسمع أو نشهد عن مهرجان جديد سينطلق خلال أيام أو أشهر. هناك مهرجان جديد في أبوظبي خاص بأفلام البيئة ينطلق في العشرين من هذا الشهر، يتبعه مهرجان جديد آخر في الكويت في الخامس والعشرين ولثلاثة أيام تحت اسم «ملتقى الكويت السينمائي» يليه الدورة الثانية لمهرجان الفيلم السعودي الذي تقيمه شركة «روتانا». في الأعوام القليلة الماضية تم تأسيس «المهرجان السينمائي لدول مجلس التعاون الخليجي» الذي عقد دورته الأولى في الدوحة ويعقد دورته الثانية في الكويت. وهناك مهرجان يقام في عمان خاص بالسينما العربية، وآخر (نسمع عنه ولا نقرأ شيئا حوله) في بغداد. وعلى ذكر بغداد، هناك نية لمهرجان كردي في كركوك.

هنا تكمن المسألة الجوهرية: إنه من الصعب على أي مهرجان أن يولد كبيرا، ومن الصعب عليه إن وُلد كبيرا أن يواصل الصعود، لكن الأصعب من الحالتين أن يولد صغيرا على أمل أن يكبر. بالتالي، فإن المهرجانات العربية في المنطقة الخليجية إذ تنتشر (وهي ضرورية ومطلوبة) عليها أن تخطط بعناية لما بعد التأسيس حيث لا ينفع أن يحقق المهرجان دورته الحالية ثم ينتظر ليرى إذا ما كان سينجز دورته المقبلة على أساس الفصل بين الدورات.

* الاحتفاء بالفنان الكويتي محمد جابر

* كان التقدير مزدوجا في حفل الافتتاح ليل الخميس عندما وقف رئيس مهرجان الخليج السينمائي عبد الحميد جمعة لجانب الفنان الكويتي محمد جابر مقلدا له جائزة شرفية عن سنوات مهنته التي تمتد لأكثر من ثلاثين سنة قدّم فيها الكاتب والممثل أكثر من ستين عملا مسرحيا وتلفزيونيا. من ناحية هو تقدير المهرجان لأحد الخامات الفنية الكبيرة في الكويت والمنطقة العربية، ومن ناحية أخرى هو تقدير يشترك به جمهور الفنان الذي تحمّس له وصفّق طويلا حين ظهر على المنصّة ضمن مراسم هذا الاحتفاء.