مقاهي «وسط البلد» في القاهرة ترتدي أقنعة الثورة

أصبحت ملجأ للمحتجين وتمددت على الأرصفة بشكل عشوائي

مقهى ريش وجروبي والبورصة.. تعكس مناخات الثورة في مصر
TT

«تستطيع أن تجد في القاهرة حياة الفنادق الهادئة، أو حياة النوادي، وألعاب البولو والتنس وحتى الغولف - كل ذلك تجده أحسن ما يكون في القاهرة الأوروبية». هكذا عبر ستانلي لينبول المؤرخ الإنجليزي في كتابه «the story of cairo» الذي وثق فيه لمشاهد الحياة اليومية بعين الخبير الأثري عام 1902.

مقاهي وسط البلد التي لعبت دورا ثقافيا وتاريخيا في حياة المصريين أضحت تحاول البحث عن بديل للرونق الثقافي الراقي الذي كانت تكتسي به، وأصبحت تتصدر المشهد المقاهي الشعبية التي تحاول أن ترتدي نبض الثورة، كما فعلت في ثورة 1919 حيث كانت المقاهي منبرا للخطب الثورية ضد الإنجليز، وملتقى الشباب والكبار من المثقفين والمشتغلين بالسياسة والمهتمين بها.

ونظرا لاعتدال أسعارها فهي تناسب الأوضاع الاقتصادية في مصر، بل إن مقهى حديقة غروبي في شارع عدلي غير من ردائه الأرستقراطي وارتدى عباءة شعبية واستجاب لنبض الزمن؛ حيث أدخل «الشيشة» ضمن قائمته وتغيرت ملامح رواده الذين يطربون لسماع القنوات الغنائية الفضائية التي تصدح بكل هابط بدلا من المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية العالمية التي كان يتراقص عليها العشاق.

أصبحت مقاهي «زهرة البستان» و«شامبليون» أو «عم صالح» وكذلك «الندوة الثقافية» و«سوق الحميدية» و«البورصة»، تجسد ملامح وسط القاهرة والتحولات التي طرأت عليها. وتتمتع هذه المقاهي بفضاء مفتوح، حيث تمتد على الرصيف، وفي تقاطعات الشوارع مشكلة نافذة للكتاب، ومصادفة نماذج الشخصيات التي يبحثون عنها، بل أصبحت الملاذ الوحيد للأدباء الراغبين في مواكبة أدب الثورة. وربما أصبح ذلك الفضاء المفتوح يخلق حالة من كسر جمود المشهد السياسي، الذي يعاني من انسدادات عديدة ويفتح للكتاب والمثقفين أفق الإبداع بعيدا عن الأماكن المغلقة التي أصبحت تقريبا تقف على أطلال الزمن.

فمنذ عام 2011 اتخذت مقاهي وسط البلد ذات الطابع الشعبي صبغة ثورية، وكان الشباب يركنون إليها مستريحين من مناوشات الميدان، ومنها مقهى «البورصة» ذلك المقهى الذي اتخذ اسمه من بورصة القاهرة، وأصبح ملتقى للفنانين والمبدعين الشباب للاتفاق على إنتاج أفلام مستقلة أو تأليف لحن جديد لفرقة شبابية، أو يعقدون نقاشات هي صوت المعارضة الشابة.

كانت تلك المقاهي في وسط البلد تمتلئ عن آخرها بالرواد في فترة الاحتجاجات وبعضها غير اسمه، ومنها مقهى «علي بابا» الذي يبرز في قلب ميدان التحرير ليصبح اسمه «مقهى بلادي»، وافتتحت سيدة سويدية مطعما يحمل اسم «تحرير سكوير» في قلب ميدان التحرير بعد الثورة إلا أن المطعم أوصدت أبوابه وتم نقله إلى المهندسين هربا من المخاطر التي يواجهها رواده بسبب إغلاق الميدان بلا إنذار والهجمات التي يتعرض لها المعتصمون بالرصاص الحي والتي قد تودي بحياة الزبائن ناهيك عن مظاهر التحرش الجنسي.

هذا الحال الجديد انعكس اجتماعيا على خصوصية العشاق، والتي لم تعد مقصورة على ارتياد مقاه بعينها معروفة أنها للأغنياء والطبقة الراقية، مثل غروبي، وأصبح الشاب يستطيع أن يقتنص لحظات رومانسية في المقاهي الشعبية ذات الفضاء المفتوح التي توفر ملجئا آمنا ومتعة الاندماج في الجو العام.

لقد خلقت المقاهي الشعبية المفتوحة حالة من التوافق بين عشق الطابع الأوروبي الراقي في وسط القاهرة وما بين المزاج الشعبي الذي أتت به الثورة، ومنها مقهى «التكعيبة» ومقهى «أفتر إيت» فأتاحت مساحة مشتركة ما بين صفوة المثقفين والجيل الصاعد من الشباب الذي كان يتجنب أحيانا الجلوس على مقاهي المثقفين لشعوره بهوة فكرية واسعة، فلم تعد هناك «عصبة الكتاب» منغلقة على نفسها ينظر إليها زبائن المقهى على أنهم مجموعة من غريبي الأطوار بل أصبح احتكاك المثقفين أنفسهم مع الناس العاديين يولد منتوجا ثقافيا مغموسا بروح الواقع. وتلاشت جلسات سماع القصائد وأصبحت نادرة، ولكن طغت اللمسة التجريبية على أشكال الفنون التي يمكن أن تشاهدها على المقاهي مثل مشهد مسرحي أو لوحة غرافيتي وليدة اللحظة تفرض نفسها على جدران الشوارع.

طغت تلك المقاهي الثقافية ببساطتها على المقاهي الراقية ذات الديكورات الفخمة التي أصبحت تبدو وكأنها لا تواكب حركة عقارب الزمن التي تتجه نحو الفئات الشعبية التي خرجت للمطالبة بأدنى حقوقها في العيش والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

المتفحص في ملامح وجوه مرتادي تلك المقاهي لن يجد عليها وجوه المثقفين والأدباء الكبار تلك الوجوه الهادئة الشاردة، بل سيجد وجوه شباب من مختلف الطبقات بصخبهم وأدخنة الشيشة التي تنفثها الفتيات أكثر من الشباب. سيجد حلقات شبابية لا يتعالى نقاشها وإنما تتلاعب أيديهم على لوحات الأجهزة الإلكترونية مما جعل تلك المقاهي التي كان عتادها الراديو والتلفاز تحرص أن تكتب لافتة كبيرة تلوح بوجود «واي فاي» لتيسير استخدام الإنترنت داخل المقهى.

لقد تغيرت ملامح وسط البلد بقوة ميدان التحرير أيقونة الثورة المصرية وانطبع ذلك على المقاهي التي طالما ارتبطت برونق زوارها مثل «مقهى ريش» الذي أسسه النمساوي بيرنارد شتينبرغ عام 1914 وأخذ رونقا خاصا بعد أن تغنت به كوكب الشرق أم كلثوم في بداياتها. وبسبب زبونه الدائم نجيب محفوظ، وتوافد صفوة الشعراء وعلى رأسهم أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي والأدباء توفيق الحكيم ويوسف إدريس والغيطاني وغيرهم، ذلك المقهى الذي فاق دوره كبرى المؤسسات الثقافية ومنه خرجت مجلتا «الثقافة الجديدة»، و«الكاتب المصري» التي رأس تحريرها طه حسين، وفيه قدمت سيدة المسرح روزاليوسف إحدى مسرحياتها، ومنه خرج ثوار 1919 يهتفون لأول مرة بسقوط بريطانيا العظمى، ومحل «غروبي» الذي كان قبلة فاتنات السينما المصرية مثل فاتن حمامة ونادية لطفي وهند رستم وعمر الشريف وأحمد رمزي وغيرهم لتناول ألذ آيس كريم.

ومقهى «الأمريكين» افتتح أكيلي جياكو غروبي أول فرع له عام 1930، خصيصا للطبقة المتوسطة التي لم تكن تستطيع ارتياد «غروبي» في طلعت حرب، وألحقه بمقهى «أمريكين» آخر في شارع 26 يوليو، وهو الذي كان الفنان أحمد زكي زبونا دائما فيه، يخرج منه ليتنزه في شوارع وسط القاهرة وحيدا شاردا حتى يصل إلى هيلتون رمسيس.

كذلك أيضا هو حال مطاعم وسط البلد ومنها «المطعم السويسري» في شارع عدلي الذي كان قبلة لعباقرة السينما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين في الصباح الباكر في السادسة صباحا يتناولون إفطارهم ويناقشون مجريات صناعة السينما المحلية والعالمية.

كان يكفي أن يتسلل الأديب بناظريه عبر نوافذ أحد تلك المقاهي لتتابع ما يشبه عروض أزياء باريس وروما، فالنساء غاية في الأناقة والدلال والرقة، تعلو رؤوسهن قبعات بمختلف التصاميم يرتدين فساتين وتنانير مبهجة ألوانها، أما الرجال فهم ببزات بيضاء وسوداء وأحذية براقة وشعورهم مصففة يدخن أغلبهم البايب أو السيجار. كانت تلك الشخوص الملهمة للكتاب والأدباء! وأصبح الكتاب يلجؤون لتلك المقاهي الشعبية لمعايشة الاحتجاجات والمظاهرات وتوابعها من الاشتباكات والرصاصات الطائشة وقنابل الغاز والأدخنة السوداء المنبعثة من حرق إطارات السيارات وعربات الشرطة المصفحة، فقد قُدر للأدباء الجدد أن تتمحور إبداعاتهم حولها.