«الدخان العربي» يتحول إلى جزء من تراث اللبنانيين الشعبي

تشكل زراعته مصدرا وحيدا للدخل لآلاف الجنوبيين

بعض النسوة يعملن في أحد حقول التبغ في بلدة عدشيت بجنوب لبنان («الشرق الأوسط»)
TT

مع خيوط الفجر وقبل أن ترسل الشمس أشعتها الذهبية يستيقظ عاشق الأرض في الجنوب اللبناني على صوت المؤذن يؤدي صلاته، ثم يدنو من أرضه مواصلا عمله في سبيل لقمة عيشه.

شتلة التبغ تشكل مصدر رزق المزارع واستمراره وقوت يومه، ورائحتها لا تزال تعبق في ملابسه، وهو فرح لا يتذمر، حتى غدت سلاحا له يواجه به عدوه الأكبر ألا وهو الفقر.

ومع بداية كل موسم تبغ، تعود سهرات الأهالي وروابط الألفة والمحبة التي لطالما غمرت أهل القرى قديما، حيث يشدك منظر العائلة مجتمعة، كبيرها وصغيرها، شيوخها ونسائها حول أكوام التبغ، والضحكات تتعالى والأحاديث لا تنتهي، يتآلف الجميع في بوتقة واحدة لا تكاد تنتهي مع قطاف الموسم، حتى تبدأ الحكاية من جديد مع بداية زراعة الموسم الجديدة وتستمر.

يقول حسن فقيه، رئيس نقابة مزارعي التبغ في الجنوب في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد دفعت الأسعار التشجيعية المدعومة من الدولة المزارعين الذين كانوا تخلوا عن هذه الزراعة في سنوات الحرب إلى العودة إليها مجددا، كما جذبت آخرين لا يملكون رخصا إلى الانخراط فيها، الأمر الذي ضاعف أعداد مزارعي التبغ في الجنوب».

وتعتبر زارعة التبغ في الجنوب وفق فقيه، ملازمة بشكل وجودي ومصيري للسكان في هذه المنطقة، خصوصا تلك الحدودية منها. ففي غياب أي وسيلة أخرى للعيش ما عدا العامل الاغترابي النسبي، فإن هذه الزراعة تشكل البديل الطبيعي لأي رهان اقتصادي ومعيشي للأهالي، فهي مصدر وحيد للدخل لآلاف المزارعين الجنوبيين، خصوصا في المناطق التي لم تصل إليها مشاريع الري، وتلك التي كانت ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي.

وتتركز هذه الزراعة في بلدات عيترون وصريفا وصديقين وقانا وعلما الشعب وعيتا الشعب والجبين ويارين والضهيرة والبستان ومروحين وشيحين وطير حرفا وقبريخا، وغيرها من بلدات منطقة صور.

وفي نظرة سريعة على يوميات هذه الزراعة تشرح وفاء كريك (من بلدة عيتا الشعب): «العمل في الدخان كله تعب وشقاء، نعمل طوال السنة، نزرع الأرض ونرش الأدوية ونشتري المياه للري، ثم نستدين كي نؤمن متطلبات حياتنا اليومية من أقساط مدارس وكهرباء ومياه».

وتؤكد كريك أن زراعة الدخان هي زراعة الفقراء، وفي حال أردنا أن نحسب المحصول نهاية العام، فإننا نخرج متعادلين مع التعب والتكاليف لا سيما في ظل الغلاء المستشري.

في المقابل تستوقفنا زهيرة مسلماني في حقل مزروع بشتول التبغ في بلدة الشعيتية (قرب مدينة صور)، لتبدأ بسرد قصة عشقها وتعلقها بأرض آبائها وأجدادها: «أربي الشتلات وأرعاهم بحنان كأنهم أطفالي حتى يكبروا، وبعد ذلك أقطفهم بكل عناية وآخذهم لأشكهم في (الميبر)، ثم أفرغهم في الخيوط، وأعلقهم على (السقالة) في مكان مخصص لهم على شكل أكباش مصفوفة ومرتبة، وبعد أن يصبحوا يابسين نأتي بطرود لوضعهم فيها، كي نبيعهم للدولة وتحديدا إلى إدارة التبغ المعروفة باسم (الريجي) وحسب نوعية وكمية التبغ يثمن سعر المحصول».

وبفعل الارتفاعات الحادة والمتتالية لأسعار التبغ محليا وعالميا وفي ظل تجاوز أسعار بعض أنواعه الحد المعقول، تحول الدخان العربي إلى بضاعة رائجة في يومنا هذا.

وفي هذا الصدد يقول المزارع نظيم حسين من بلدة عيتا الجبل (جنوب لبنان) والذي يزرع التبغ العربي منذ كان عمره 15 عاما: «يشكل الدخان العربي متنفسا كبيرا للمدخنين من الطبقات المتوسطة والفقيرة، نظرا لكلفته القليلة؛ ونحن نقوم منذ عشرات السنين بزراعة الدخان البلدي وتأهيله وتنقيته وتصنيعه بالطرق التقليدية».

ويوضح أن دخان «اللف» طبيعي مائة في المائة وهو دخان حر وغير ضار، لأنه خال من الإضافات ومن الأضرار الخطيرة التي يحتويها الدخان العادي.

ويعتبر حسين أن أكثر المدخنين من هذا التبغ العربي هم من كبار السن في القرى والبلدات الجنوبية، فضلا عن إقبال بعض المغتربين الذين يعانون من ارتفاع سعر دخانهم المفضل في أماكن اغترابهم كالولايات المتحدة الأميركية وأستراليا».

وحول السعر يشير إلى أن سعر الكيلو الواحد يصل إلى ثلاثين ألف ليرة لبنانية، وهناك أنواع أخرى بسعر أقل، وكل كيلو من هذا الدخان يساوي 1200 سيجارة بحجم السيجارة العادية. ويعتبر التبغ أحد أبرز المحاصيل الزراعية في لبنان ويأتي في المرتبة الرابعة بعد إنتاج الحمضيات والموز والزيتون من حيث المساحات المزروعة. ويعتقد أن زراعة التبغ ظهرت لأول مرة في لبنان في القرن السادس عشر.

والتبغ محصول زراعي صناعي وهو ينتمي إلى عائلة «Solanaceae» وأنواع «Tvicotina التي تضم 70 نوعا، من بينها نوعان مهمان على الصعيد الصناعي (Nicotina Rustical وNicotina Tabacum). وتستعمل أوراق التبغ للسجائر والغليون والنرجيلة فيما تزرع بذور التبغ في لوحات البذر قبل أن تنقل إلى الحقول. وتحتاج كل أنواع التبغ إلى أشعة الشمس (من 3 إلى 5 أشهر)، وتختلف نوعية التبغ بحسب نوعية التربة والمناخ، فيما تتم معالجة أوراق التبغ في المعامل علما أن المعمل الأول بني في حمانا (جبل لبنان) وتلاه معمل ثان في انطلياس (كسروان). وتغطي زراعة التبغ في لبنان أكثر من 10350 هكتارا ويعمل فيها نحو 29800 مزارع وتنتج 11000 طن في السنة. وتضم الشبكة الاقتصادية المرتبطة بزراعة التبغ 10000 بائع يبيعون منتجات التبغ و1500 موظف في إدارة التبغ وأكثر من 1000 عامل موسمي في قطاع التبغ. وفي الختام لم تعد شتلة التبغ الجنوبية مجرد نمط إنتاجي أو وسيلة لتوفير مستلزمات العيش، إنما أصبحت جزءا من التراث الشعبي لأبناء هذه المنطقة، وتحولت رمزا للصمود في الأرض لكنها بقيت في الوقت نفسه حكاية عن بدائية وسائل الإنتاج، والزراعة العائلية و«اللقمة المرة».