«أعمدة الحكمة السبعة» تضيء درب التائهين في بيروت

«دموع صافية».. رقص بلجيكي بنكهة الشرق التصوفية

مشهد من عرض «دموع صافية/مياه معكرة»
TT

«دموع صافية / مياه معكرة» هو اسم العرض البلجيكي الذي به افتتح «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» أعمال دورته التاسعة، نهاية الأسبوع الماضي. ليس العرض بطبيعته من النوع الصادم أو المعتمد على الإدهاش السريع، إنما هو من تلك الأعمال التي تحتاج إلى صبر كي تتمتع برحيقها.

الراقصون السبعة الذين يجوبون المسرح، يظهرون في البداية وكأنهم يدورون في أفلاك أعمدة تدلت من فضاء الخشبة. الأعمدة ذات اللون المعدني الأصم، مع الموسيقى الحية التي يؤديها ثلاثة عازفين صعدوا إلى المسرح، تأخذنا بالضرورة إلى حداثة جافة لها أزيز وصرير وبرود وجفاف لا تدفئة سوى حرارة حركة الراقصين التي لا تكل. انسيابية في التشكيلات التي ما بين ثلاثية وثنائية أو جماعية وأحيانا فردية تجعلنا نلحق بأبصارنا هؤلاء السحرة الذين لا يتعبون طوال ما يزيد على الساعة دون استراحة.

جزء لا يتجزأ من الموسيقى الجميلة التي يؤديها العازفون هي أنفاس الراقصين، شهيقهم، زفيرهم، ووقع أقدامهم العارية، ولهاثهم المتصاعد. في هذا الرقص البلجيكي المعاصر الذي أراده مصممه تييري سميتس، تعبيرا عن الإرهاق من حداثة مضنية، تمتزج العناصر الفنية بانسجامية عالية، دون أن تطغى واحدتها على الأخرى. ثمة توازن دقيق بين حركة أجساد الراقصين، ووضعيات الأعمدة التي تأخذ بالتحرك، وطبيعة الإضاءة التي تتبدل بهدوء، بحيث يبدو الكل في تناغم وتجانس شديدين.

في نصف الساعة الأولى يريدنا مصمم العمل أن نبقى على ما يشبه رتابة في المشهد، وصولا إلى نصف آخر، تضاء فيه الأعمدة التي تذكر بسبب ما تلعبه من دور بعنوان كتاب لورنس العرب الشهير «أعمدة الحكمة السبعة».

الأشياء المتدلية لمدة أكثر من نصف ساعة هي ليست مجرد أنابيب صماء، وتصبح حركة الأعمدة هي في جوهر الرقص ولبه. وتبدأ الأعمدة بالتحرك أفقيا تقدم تشكيلاتها، تضيء وجوه الراقصين الذين يلحقون الضوء كالفراشات التي تريد الخروج من العتمة. وراء أضواء الأعمدة المشعة، تحتها، إلى جانبها، في ظلها، وخلفها أو تحتها يستعرض الراقصون آلامهم وأفراحهم وشعورهم بالخلاص والانطلاق. لا يوازي انكماش الحيوية في القسم الأول من العرض إلا الانطلاقة البهيجة للموسيقى التي تستدرج الراقصين صوب حرية تجعلهم ينطلقون برحابة مفرحة. ارتفاع الأعمدة صوب السقف، في نهاية العرض، وتحولها إلى مجرد أضواء أفقية كلاسيكية في فضاء السقف، يخلي الخشبة كليا لأجساد الراقصين الذين انعتقوا من زفراتهم وحسراتهم، وراحوا يتعانقون بحرية.

عرض «دموع صافية / مياه معكرة» بصوفيته وبحثه عن الإشراق والضوء في قلب العتمة، لم يكن إلا بداية لـ«مهرجان بيروت للرقص المعاصر» الذي بات موعدا سنويا منتظرا. المواعيد تتابع حتى الـ26 أبريل (نيسان) من الحالي في مسرحي «المدينة» و«بابل» البيروتيين، واستطاع الجمهور أيضا أن يستمتع يومي 14 و15 بعروض عربية مختارة، جلها جاء من سوريا، هذه السنة. ما أطلق عليه «الملتقى العربي للرقص – ليمون»، كان مهرجانا عربيا داخل المهرجان الكبير، حيث عرضت أفلام ودارت نقاشات وحوارات واحتفى راقصون عرب بلقائهم الذي يفترض أن يثمر.

يستمر «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» حتى السادس والعشرين من الشهر الحالي ويختتم مع عمل يحمل اسم «روسيا» آتيا من إسبانيا.