البطاقة البريدية ما زالت صامدة في زمن «الإيميل»

ولدت بالنمسا ويباع منها 600 مليون في فرنسا كل عام

أكشاك بيع البطاقات تنتشر في المدن السياحية
TT

بعد 50 سنة من التيه، وصلت بطاقة بريدية مرسلة من مرسيليا، على الساحل الجنوبي لفرنسا، في عام 1963، إلى هدفها في عنوان يقع بمدينة لوريان. وتحمل البطاقة صورة للمرفأ القديم في مرسيليا وكانت موجهة إلى مارسيل جاكيه، معاون مدير شرطة لوريان الذي توفي قبل 30 سنة. ويجري حاليا البحث عن ورثته لتسليمهم البطاقة التي تأخرت في الطريق.

لا يبدو الخبر فريدا من نوعه. لكن الغريب هو أن البطاقات التي ترسل بالبريد ما زالت صامدة في زمن الإنترنت والرسائل الهاتفية والإلكترونية. ورغم تراجع تبادل هذا النوع من البطاقات في فرنسا بنسبة 70 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة، حسبما تشير عدة دراسات، فإن 600 مليون بطاقة ما زالت تمر بصناديق البريد كل عام، أي بمعدل 10 بطاقات لكل مواطن، ما بين إرسال واستقبال.

من يتجول في شوارع باريس وغيرها من مدن البلاد، يلاحظ أن البطاقات البريدية بمختلف الأحجام والصور ما زالت تتصدر أرفف المكتبات وواجهات أكشاك بيع الصحف والتذكارات. إنها من ضرورات الحركة السياحية في بلد يزوره 70 مليون سائح في السنة. وهناك من يضيق بعادة إرسال البطاقات من بلد السفر، بحكم التقاليد الشائعة، لكن كثيرين يعتبرونها من علامات الصداقة والمجاملات الاجتماعية اللطيفة. وطبعا، فإن إرسال بطاقة من باريس تحمل صورة برج إيفل أو قوس النصر أو مسرح الطاحونة الحمراء هو نوع من المباهاة، لدى سياح آخرين.

وبفضل الإقبال الكبير عليها، عرفت البطاقات البريدية الكثير من التطورات ولم تعد مستطيلة وذات مقاس محدد بل ظهر منها ما هو دائري أو مثلث أو مقرنص، كما أنها لم تعد صامتة؛ بل تنافس الناشرون على إطلاق البطاقات الموسيقية أو التي تعتمد التمويه للإيحاء بتحرك الصورة المطبوعة عليها. ومن البطاقات التي تلقى رواجا خاصا بين الشباب تلك التي تعتمد الرسوم الفكاهية رسالة لها.

في الصيف المقبل تحتفل البطاقة البريدية بالذكرى الثانية والثلاثين بعد المائة لظهورها. ففي 29 يوليو (تموز) 1881 صدر قانون التسجيل الرسمي بالمكتبة الوطنية الفرنسية لنماذج من البطاقات البريدية. ورغم مرور السنوات، فإن صور غروب الشمس وراء البحر أو الأزاهير المتفتحة في الحقول، ما زالت من أكثر ما يغري الزبائن، مع إقبال كبير على صور برج إيفل التي بيع منها أكثر من 5 مليارات بطاقة مختلفة منذ 1889، أي منذ تشييده. ومع التزايد السنوي لهذا الرقم، فإنه يمكن أن يشكل بطاقة لكل واحد من سكان كوكب الأرض.

لا يعتبر الباعة أن البريد الإلكتروني والرسائل النصية هما السبب في تراجع مبيعات البطاقات البريدية، بل الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية للسياح، لا سيما الشباب منهم. وحتى لو كان سعر البطاقة العادية يساوي 40 سنتيما من اليورو، فإن ثمن الطابع البريدي هو 60 سنتيما. وفي حال رغب السائح في إرسال 10 بطاقات إلى أصدقائه، فإن التكلفة قد تجعله يفكر مرتين ويختصرها إلى نصف هذا العدد.

ومن المثير أن سوق البطاقات الجديدة توازيها سوق للبطاقات القديمة، المستعملة والتاريخية. وهناك جامعون متخصصون في هذا النوع من البطاقات الأثرية ومزادات خاصة بها. وعادة ما تثير شهية عشاق التاريخ البطاقات التي تحمل صورا قديمة بالأسود والأبيض للمدن والقرى الفرنسية، ملتقطة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، مع إقبال خاص على بطاقات المستعمرات الفرنسية والمحميات السابقة والصور التي تعكس جوانب من الحياة في بيروت وتونس وبنزرت وجربة وقسنطينة والجزائر العاصمة. وهناك من يقصد باريس ليبحث عن بطاقات تحمل صورا قديمة من مدن فلسطين، قبل الاحتلال، ومشاهد من القدس وحيفا والناصرة ويافا. ولهواة هذه البطاقات القديمة وباعتها إلمام واسع بمطابعها وأنواعها، ومثل كل أصحاب الاهتمامات المشتركة، لهم لغتهم الخاصة في التعريف ببضاعتهم، فهذه بطاقة من «لوبولونجيه»، تبعا لاسم مصورها، وتلك من مجموعة «بنوا جانيت». لكن هناك من يعير الطابع البريدي الموجود على البطاقة اهتماما يفوق البطاقة وصورتها أو النص المكتوب عليها بخط اليد. وقد ظهرت مؤسسات، مثل «كليمان» في فرنسا، راحت تشتري مجاميع البطاقات البريدية المهمة من أصحابها وتحفظها في أرشيفها وتعتني بصيانتها وتضعها تحت تصرف الزوار والباحثين، مجانا.

ويبقى الحديث عن هذه البطاقات ذا شجون. ويظن كثيرون أن الإنجليز هم من اخترعها، مثلما كانوا أول من استخدم طوابع البريد، عام 1837، لكن الحقيقة هي أن أول بطاقة بريدية رأت النور كانت في النمسا على يد الدكتور هنريش فون ستيفان، المدير العام للبريد في فيينا ومؤسس الاتحاد العالمي للبريد، عام 1865. وخلال المؤتمر البريدي الذي عقد في كالسروة، اقترح فون ستيفان الفكرة التي تقوم على تدوين رسالة مقتضبة على بطاقة مصورة مفتوحة ترسل بالبريد، لكن لم يؤخذ بالفكرة على الفور وكان عليه الانتظار 4 سنوات لكي يقتنع بها النمساويون.

وفي عام 1870، أصدرت جمعية إغاثة الجرحى العسكريين، البذرة الأولى لمنظمة الصليب الأحمر، بطاقات تسمح بالتواصل الداخلي بين لجانها المحلية. وفي صيف العام ذاته، حين كانت مدينة ستراسبورغ تحت حصار قوات الجنرال البروسي فون فيردر وترفض التسليم، سمحت اللجنة المحلية لجمعية إغاثة الجرحى بتوزيع البطاقات الفائضة التي أصدرتها لمراسلاتها الخاصة، على المصابين والمحاصرين للتواصل مع عائلاتهم. وقد تم إرسال تلك البطاقات موشحة بطابع بريدي من فئة 6 كروزر. وكانت تلك البطاقات تمر على الرقابة قبل أن تأخذ طريقها إلى أهدافها عبر مدينة بازل الحدودية الحالية. وبفضل تلك المراسلات دخلت البطاقات البريدية الأولى إلى الأراضي الفرنسية.