دار الأوبرا بروما تستعيد أمجادها الغابرة

دليلة تخدع شمشون الجبار في غزة

مشهد من أوبرا الموسيقار الفرنسي كميل سان سانس «شمشون ودليلة»
TT

كان الرومان يقيمون منذ ألفي سنة مهرجانا تتفشى فيه العربدة والخلاعة والمجون، وتشترك فيه عابدات إله الخمر باخوس في حفلات المجون الطقوسية شبه عاريات، يكاد الشرر الوحشي ينطلق من عيونهن، ويطلقن أصواتا مروعة وهن يقرعن الصنوج ويلوحن بضرب السوط. هذا ما رأيناه قبل أيام على مسرح دار الأوبرا في روما، في إنتاج جديد هائل لأوبرا الموسيقار الفرنسي كميل سان سانس المستوحاة من التوراة «شمشون ودليلة». ولمن لا يعرف القصة يكتشف أن أحداثها تجري في مدينة غزة، وأن دليلة الحسناء الفلسطينية تغري البطل اليهودي شمشون لكي تعرف سر قوته في شعره، وتنتهي القصة بهدم شمشون للمعبد على رؤوس الجميع. موسيقى رقصة البكانال معروفة جيدا لدى محبي الموسيقى الكلاسيكية، وقد استوحى سان سانس لحنها الشرقي خلال إقامته في الجزائر.

كم تبدلت أوبرا روما في السنتين الماضيتين. كانت مثالا للإنتاج المقبول دون امتياز، وللمصاريف الباهظة التي أوقعتها في عجز مالي كبير، ولغالبية الفنانين من الدرجة الثانية على عكس ما كانت عليه من عظمة في خمسينات وستينات القرن الماضي. لكن تبديل الإدارة بأكملها وجلب الأسماء اللامعة ومنع الإسراف، قلب الأمور وأعادها إلى الأيام المجيدة الغابرة. تم تعيين كاتيلو دي مارتينو مديرا عاما بعد نقله من شركة «إيني( الإيطالية للبترول فأوقف نزيف الديون التي وصلت إلى 11 مليون يورو (ما يفوق 14 مليون دولار)، وفرض الموازنة المتوازنة بحيث أصبحت تكلفة الإنتاج تعادل الدخل النابع من بيع التذاكر وتمويل المانحين من محبي الفن، بالإضافة إلى دعم محدود من الدولة. ثم وافق قائد الأوركسترا الشهير ريكاردو موتي على تبوؤ منصب القائد مدى الحياة، فلمسنا تحسن النوعية في الأداء بين الفرقة والموسيقية والكورس واختيار العروض المسرحية الغنائية والراقصة، كما تم تعيين إليسيو فلاد في منصب المدير الفني وهو من كبار المختصين بالموسيقى في إيطاليا وله خبرة طويلة في الكثير من دور الأوبرا في إيطاليا من شمالها إلى جنوبها، ومعه فيليبو أريفا الكاتب والصحافي الصقلي الموهوب والقريب إلى القلب كمسؤول عن العلاقات العامة والمكتب الصحافي.

انعكست هذه التبديلات في عروض العام الحالي كما رأينا في «شمشون ودليلة» التي لم تعرض في دار الأوبرا بروما منذ خمسين سنة، وفي قبول قائد الأوركسترا الفرنسي المرموق ذي الشهرة العالمية شارل دوتوا الحضور إلى روما بعد غياب طويل، واختيار المغنية الروسية المعروفة ذات الصوت والشكل الجميل والأناقة اللافتة أولغا بورودينا للقيام بدور دليلة التي تستعمل سلاح الإغراء للدفاع عن شعبها. أما ألكساندرس أنتوننكو من ليتوانيا الذي قام بدور شمشون، فهو من الجيل الصاعد الواعد بصوته الرخيم، لكن ملابسه لم تكن موفقة في العرض فبدا كأنه يرتدي لباسا رياضيا بسيطا أثناء التدريب الرياضي. الموسيقى العذبة للأوبرا وطريقة قيادة دوتوا الأنيقة المميزة وبراعة المخرج الإسباني كارلوس بادريسا في إضفاء طابع الحركة المستمرة واستخدام السينما كخلفية لبعض المناظر المسرحية - جلبت للعرض النجاح الباهر الذي أثار حماس الجمهور وإعجابه.

حين ألف سان سانس عام 1876 هذه المسرحية الغنائية على طريقته اللحنية التقليدية العذبة، توقع لها الكثيرون الفشل لأن مواضيع قصص التوراة لم تكن مطلوبة في تلك الفترة، لكن سان سانس كان يعتقد أن الموسيقى وحدها ستثبت النجاح، خاصة إذا تميزت بالتوزيع الموسيقي البارع، إذ يقول: «الموسيقى توجد لذاتها، لأنها موسيقى صافية وفوق كل عاطفة».

تميز سان سانس بولعه بالموسيقى الشرقية، فحين زار مصر وسمع غناء البحارة في المركب خلال رحلة النيل من القاهرة إلى الأقصر، استوحى اللحن ودمجه في كونشرتو البيانو الخامس، وحين تصغي إليه يخال لك أنك تسمع تقاسيم للقانون، كما أنه لحن قطعة أخرى بعنوان «سويت جزائرية» قبل وفاته في فندق الواحة بالجزائر عام 1921 عن عمر يناهز 86 عاما. من أكثر القطع الناجحة ذات المواضيع الغريبة التي ألفها سان سانس «رقصة المقابر» وقطعة مهداة للأطفال اسمها «كارنفال الحيوانات»، وأطرف ما فيها، بالإضافة إلى تقليد الآلات الموسيقية لأصوات البجعة والسلحفاة والفيل والدجاج، مقطع يقلد صوت الحمار لأول مرة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.